13 فبراير 2020

حلفاء أم أعداء: اللغز الأمريكي-التركي

بقلم إبراهيم بكري

عرفت العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب، وإيران من جانب آخر توتراً في أعقاب الضربة التي استهدفت قاسم سليماني اللواء في الحرس الثوري الإيراني وقائد فيلق القدس، والتي فاقمت أيضا من حدة الاضطرابات في المنطقة؛ هذه العملية الأحادية التي وصفتها الولايات المتحدة بأنها تحرك وقائي هَدفت من خلاله إلى إرسال رسالة لطهران، لم تكن الأولى من نوعها، والتي نظر إليها المتابعون باعتبارها مُضرة بالعلاقات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

فمنذ وقت ليس ببعيد، قد أثار قرار إدارة ترمب سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا غضباً في أوساط حلفائها الأكراد الذين تُركوا لمواجهة مصيرهم، في وقت اعتبرت فيه تركيا القرار انتصاراً يدعم مساعيها لتطهير حدودها الجنوبية من النفوذ الكردي؛ وبغض النظر عن أثر قرار واشنطن على تركيا ومصالحها، من المرجح أن يكون ذلك مؤشراً على سياسة أمريكية خارجية متطورة في المنطقة تُقدِّم المصالح الأمريكية على الحفاظ على العلاقات مع حلفائها في توقيت تزامن مع مواجهة الرئيس ترمب أيضاً لاحتمالات اتهامه رسمياً بسوء استغلال سلطاته ما ثبت أنه تهديد حقيقي قام في ما بعد مَجْلِس الشُيوخ الأمريكي بتبرئته منه.

والملاحظ، في سياق تعاقب الأحداث، أن بعض القضايا الأمريكية الراهنة قد وجدت دعماً من الحزبين أكثر ممّا وجده قرار الانسحاب من سوريا، خصوصاً في ظل إدارة ترمب المثيرة للجدل؛ فتخلّي إدارة ترمب عن حلفائها الأكراد وتركهم تحت رحمة إرادة تركيا يشكل نقلة وتحولًا في النهج الأمريكي تجاه سوريا، والمنطقة برمتها غير أنه لا يتعارض مع خطاب ترمب حول سوريا والعلاقة مع قوات سوريا الديمقراطية التي وصفها السفير جيمس جيفري بأنها علاقة “تكتيكية ومعاملاتيه“.

وعلى الرغم من أن قرار ترمب سحب القوات الأمريكية لم يحظَ بتأييد من كلا الحزبين، فالواضح هو جُنوح الأمريكيين إلى إنهاء “الحروب طويلة الأمد” التي ورطت أمريكا عسكرياً في الشرق الأوسط، والتي ربما كانت سبباً أسهم في خسارة هيلاري كلينتون للانتخابات الرئاسية عام 2016، هذا إلى جانب أن التعاون مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتلبية مطالب أنقرة يعني منح الولايات المتحدة فرصةً للخروج من ساحة النزاع الدائر في سوريا.

وبِسحبها لقواتها من شمال شرق سوريا تكون الولايات المتحدة كشفت أن تحقيق مجموعة من الأهداف في المنطقة ينال الأسبقية على تبني سياسة شاملة لحماية حلفائها؛ فترك الأكراد لمواجهة مصيرهم جعلهم يتوجهون إلى خيار التحالف مع نظام بشار الأسد الذي كانت الولايات المتحدة تطالب بتغييره؛ وبوضع الأكراد في موقف يصبح فيه التحالف مع الأسد هو الخيار الأوحد تكون أمريكا أرسلت رسالة مفادها أن لا رغبة لها في مواصلة الضغط من أجل تغيير النظام، والأهم من هذا وذاك هو عدم رغبتها في الاضطلاع بأي دور قيادي في مستقبل سوريا.

وبغض النظر عن مكافحة الإرهاب والحرب ضد تنظيم داعش الذي يعتقد ترمب، على العكس من مساعديه والكثيرين من أعضاء حزبه، أنها كُسبت، فإن الولايات المتحدة تفضل ترك زمام الأمور بيد الفاعلين على الأرض كروسيا وتركيا من خلال قرار لم يحظَ بالتأييد ويمهد الطريق لاستراتيجية رفع اليد عن سوريا في ظل تراجع الحوار مع إيران وتحول تركيز الإعلام وانتباهه إلى قضايا أخرى.

وعلى الرغم من أن تركيا ظلت حليفة للولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، فقد كانت العلاقات الأمريكية – التركية بعيدة عن الاستقرار إذ عرفت تراجعا تدريجياً منذ عام 2003 في أعقاب موقف تركيا الصارم تجاه مساندة العمليات العسكرية الأمريكية في العراق، وظلت كذلك متوترة إلى حد كبير على عهد إدارة أوباما بسبب سياسات واشنطن الخارجية تجاه سوريا ورفض التدخل الأمريكي – الكردي على طول الحدود السورية – التركية.

كما يمكن النظر أيضا إلى الانقلاب الفاشل الذي حدث في يوليو 2016 ضد أردوغان باعتباره نقطة تحوُّل محورية في السياسة الخارجية التركية التي توجهت نحو روسيا لبناء تحالفاتها بعيداً عن الغرب والولايات المتحدة؛ خاصة وأن الحكومة التركية ألقت بمسؤولية الانقلاب على المنشق عبدالله غولن المقيم في ولاية بنسلفانيا، والذي رفضت الولايات المتحدة تسليمه لها بالرغم من مطالباتها المتكررة.

InsightImage

لقد كان لتركيا وروسيا رؤى مختلفة بشأن مستقبل الشرق الأوسط، خصوصاً سوريا ونظام الرئيس بشار الأسد، إذ ظلت روسيا واحدة من أكثر الدول تمسكا ببشار الأسد، في وقت ظلت تركيا تطالب بتغيير النظام، محمّلةً بشار الأسد كامل المسؤولية عن أزمة اللاجئين والصراع الدائر في سوريا؛ وبالرغم من هذا التضارب في السياسة الخارجية لكلا البلدين، إلا أنهما أظهرا قدرة حقيقية على التعاون في المسألة السورية.

ومازال الوجود الكردي على طول الحدود الجنوبية يمثل أولوية لتركيا ترى فيه تهديداً يُمكنه تحريك السكان الأكراد المحبَطين داخل تركيا وتنشيط حزب العمال الكردستاني الذي تنظر من خلاله تركيا إلى الأكراد السوريين باعتبارهم  فرعاً لحزب تصفه أنقرة بالجماعة الإرهابية التي وجهت بسببها انتقادات للولايات المتحدة لتمويلها لهذا الحزب الذي تعتبره مجرداً من أي صفة شرعية.

لقد أشارت المكالمة الهاتفية التي أُجريَت مع الرئيس التركي قُبيْل الإعلان عن سحب القوات الأمريكية كذلك إلى إمكانية أن يكون هذا القرار قد تم اتخاذه بالتنسيق مع تركيا أو على الأقل بالنظر إلى المصالح التركية؛ فالرئيس أردوغان كان واضحاً في موقفه من الوجود الكردي على طول الحدود التركية، ومع انسحاب القوات الأمريكية، أصبح لتركيا مطلق الحرية في دخول الأراضي المتنازع عليها وطرد قوات سوريا الديمقراطية.

ورداً على العمليات العسكرية التركية المخططة، بعث ترمب رسالة تحذيرية إلى رئيس تركيا في 9 من أكتوبر 2019؛ اليوم نفسه الذي عرف انطلاق “عملية نبع السلام” التي أسفرت عن ؛ الأحداث التي أعقبها توصل نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس إلى اتفاق لوقف إطلاق النار لمدة خمسة أيام على طول الحدود التركية من خلال  تحديد “منطقة آمنة” بطول 20 ميلاً على امتداد الحدود السورية – التركية التي يبلغ طولها 300 ميل.

تعكس إقامة هذه المنطقة الآمنة بالفعل رغبة تركيا في القضاء على التهديد الكردي على حدودها. كما توفّر لأنقرة منطقة عازلة داخل سوريا تخطط لإعادة توطين اللاجئين السوريين فيها؛ وإذا ما تحقق هذا الهدف، فمكاسب تركيا ستكون ثلاثة:

  • تخفيف الضغط الاقتصادي المترتب على استضافة هؤلاء اللاجئين في تركيا؛
  • والقضاء على الوجود الكردي على حدودها؛
  • وجعل الأكراد أقلية وسط السوريين العائدين من مناطق أخرى.

كما أنها تنشئ منطقة نفوذ قوية، محتفظةً بموطئ قدم ودرجة من الولاء من قِبَل السوريين الذين أعادت توطينهم، ومن دون دعم خارجي لهذه المخططات الرامية إلى إعادة توطين السوريين في المنطقة وطرد الأكراد منها قد يُحتّم الوضع احتلال الأراضي السورية لفترات طويلة؛ الأمر الذي أعرب الرئيس السوري بشار الأسد عن رفضه له واصفا تصرفات تركيا في شمال سوريا بأنها غير شرعية، وتوعّد باسترجاع كل الأراضي السورية، قائلا: “أردوغان لص يسرق الآن أراضينا“.

وعلى الرغم من الطبيعة الملتبسة لما يجري في المنطقة، فقد أشاد الرئيس ترمب بما قامت به تركيا مؤكداً على أهميتها كحليف للولايات المتحدة في محاولة منه لاحتواء رفض الحزبين الأمريكيين لما قامت به، غير أن محاولته كانت دون جدوى خاصة مع اعتراف الكونغرس الأمريكي بالإبادة الجماعية للأرمن بعد تصريحات ترمب التي ذهب إلى تأكيدها باستضافته لأردوغان في 13 من نوفمبر 2019، وإشادته بتركيا وسياستها في سوريا والتزامها بالتصدي للتطرف في المنطقة بالتعاون مع الولايات المتحدة في الحرب على تنظيم داعش.

لقد كان الوعد بإخراج الجيش الأمريكي من الشرق الأوسط جزءاً من حملة الرئيس ترمب عام 2016، بعد القضاء على تنظيم داعش؛ وبإعطائه الضوء الأخضر لتركيا في سوريا واعترافه بها حليفاً في الحرب على أعداء أمريكا، ربما يكون ترمب قد أعطى الولايات المتحدة القدرة على التخلص من عبء المسؤولية في شمال شرق سوريا – ولو أن ذلك جاء على حساب ثقة حلفائها فيها؛ وهذا الأمر يكتسب أهمية خاصة في الوقت الذي يواصل فيه المجتمع الدولي التكهن بشأن تكلفة إعادة بناء سوريا – وهو مشروع يقدّر بأكثر من 250 مليار دولار.

إذا بدا أن الولايات المتحدة غير حريصة على لعب دور رئيسي في المنطقة، ما عدا في حقول النفط السورية – التي مازالت تحت حراسة الجنود الأمريكيين – فإنها لا تبدو راغبةً في أي موطئ قدم في سوريا. وتحاول، بدلاً من ذلك، بناء علاقات أوثق مع الحلفاء المستعدين؛ وعلى الرغم من أنه من الأهمية بمكان عدم تعميم هذا النهج على المنطقة برمتها، إلا أنه يبدو أن الإجراءات الأمريكية في سوريا بما في ذلك إعطاء الأولوية للأهداف العاجلة على حماية الحلفاء، ترسم صورة لمستقبل السياسة الأمريكية داخل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ببساطة، ما لم يكن هناك تهديد مباشر يُعرض الولايات المتحدة للخطر، أو علاقة وثيقة تركز على التجارة والمكاسب الاقتصادية المتبادلة، فإن الولايات المتحدة ستتحاشى التورط في الشرق الأوسط، وسواء أكان هذا نتيجة لمشاعر شعبوية في السياسة الأمريكية أم نتيجة درس تعلمه الأمريكيون في العراق وأفغانستان؛ فربما يحدد هذا مستقبل المشاركة الأميركية في المنطقة؛ على الأقل في ظل إدارة ترامب. وينطبق هذا بجه خاص في حالة تركيا، الدولة التي لا تعتمد عليها أمريكا اقتصادياً ولا سياسياً.

ومن منظور اقتصادي، فإن الأمر الأكثر أهمية هو تمسك الولايات المتحدة بعدم السماح لتركيا بالعودة إلى البرنامج المشترك لتطوير مقاتلة أف-35 الهجومية في وقت تؤكد فيه أنقرة أن شراء لنظام الدفاع الصاروخي إس-400 الروسي، وهو الأمر الذي أدي إلى إخراجها من هذا البرنامج، رغم أن هذا التحرك التركي جاء كردة فعل على رفض إدارة أوباما بيع صواريخ باتريوت الأمريكية لتركيا، وقبل إخراج تركيا من هذا البرنامج، كان من المقرر أن ينتج المصنعون الأتراك تشكيلة متنوعة من مكونات الطائرات، وكان ذلك سيكون دفعة إيجابية للاقتصاد التركي المتعثر. وقد أكد أردوغان، في لقائه بالرئيس ترمب، مرة أخرى أن تركيا مستعدة لشراء صواريخ باتريوت إذا استمر نظام الصواريخ إس-400 الروسي يشكل حاجزاً أمام قبولها في برنامج إف-35 الأمر الذي كان ترمب متردداً في الحديث عنه.

وعلى الرغم من أن أردوغان عزا هذا علناً إلى محنة ترمب المستمرة جراء اتهامه بسوء استغلال سلطاته، فالأمر لا يبدو وكأن الحكومة الأمريكية لديها خطة عاجلة لتغيير استراتيجيتها بشأن تركيا والبرنامج المشترك لتطوير مقاتلة أف-35 الهجومية. وفي ما يتعلق بنمو الاقتصاد التركي، فقد كان في حاجة إلى كسب هذه المعركة – أكثر بكثير من الانتصار في مجال النفوذ في شمال شرق سوريا. إن عدم الرغبة في التزحزح عن هذا الأمر يشير إلى أن العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة لن تتغير تغيراً جذرياً في وقت قريب. وبإضافة الضغوط الاقتصادية الداخلية واستمرار قضايا اللاجئين السوريين، الذين من المرجح ألّا يغادر كثيرون منهم تركيا أبداً، فإن هذا الوضع لا يبشر بخير لتركيا.

إن لتركيا ما يبرر إعرابها عن شكوكها حول قوة تحالفها مع الولايات المتحدة بما في ذلك أقرب حلفائها في المنطقة، مثل إسرائيل، والذين شعروا بالإحباط تجاه القرارات الأمريكية الأخيرة في المنطقة. فعلى الرغم من العلاقة الوطيدة المتماسكة تاريخياً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على سبيل المثال، فقد أوضح الرئيس ترمب أن علاقة الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية المطاف تكون مع الدولة وليس مع الرجل. لقد حدث هذا بعد فشل نتنياهو مرة ثانية في الانتخابات – ما عزز الخطاب الشعبوي المحيط بإدارة ترمب ومقاربتها لصنع القرار في المنطقة. وعلى الرغم من أن بعض هذه الشكوك قد هدأ بعد الضربة التي وجهتها إدارة ترمب إلى قاسم سليماني، فقد بذل نتنياهو جهوداً واضحة للنأي بإسرائيل عنها، واصفاً إياها بأنها “حدث أمريكي”.

لقد أحبط عدم إمكانية التنبؤ هذا الحلفاء الأمريكيين في المنطقة – وربما كان سبباً في تعزيز الأجندة الروسية في سوريا وغيرها. ولكن ثمة شرط فريد للإدارة الأمريكية، وهو ألا يُعتبر هذا تهديداً للمصالح الأمريكية. فالمصالح الأمريكية في المنطقة، خصوصاً في سوريا، تظل واضحة: القضاء على وجود تنظيم داعش، وحماية إسرائيل، ووقف تمدد النفوذ الإيراني الذي قد يهدد إسرائيل أو العلاقة الوثيقة التي تتمتع بها الولايات المتحدة مع المملكة العربية السعودية.

من الواضح الآن، في ما يبدو، أن جميع المظاهر الأخرى للانخراط الأمريكي في المنطقة يمكن أن تتغير في لحظة. وقد أدى هذا إلى دفع تركيا وروسيا إلى المزيد من التقارب بينهما، ما أسفر عن دولة سورية ستحددها تركيا وروسيا، مع بقاء نظام الأسد في السلطة وفقاً لشروط معينة. وعلى الرغم من ضرورة تحالف الأكراد مع نظام الأسد، فإنه يعوق المحادثات المباشرة بشأن إقامة دولة كردية مستقلة في شمال سوريا؛ وهو احتمال وقفت تركيا ضده تاريخياً وقضت عليه عملياً. إن مستقبل العلاقات الأمريكية مع تركيا إزاء سوريا سيستمر كما هو عليه حالياً – حيث لا تكون تركيا حليفاً ولا عدواً.

التعليقات

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم كشفه.