20 يناير 2020

التعددية القطبية والصراعات اللامتناهية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

بقلم محمد عصام لعروسي

تفترض التعددية القطبية الاحتكام إلى الأسس والقواعد الكونية التي تحدد الكيفية التي ينبغي أن يحكم ويدار بها العالم، باعتبارها شكلاً مؤسسياً وأرضية مناسبة لتنسيق السياسات على الصعيد الدولي. كما أنها تحدد مفهوم الحوكمة العالمية، وتؤكد على القناعة الحاصلة؛ بأن عدم وجود حكومة كونية يعوق تطبيق تدابير الحوكمة على نطاق واسع، وبالتالي قد ساهم عدم الالتزام بقواعد الدبلوماسية الجماعية في إضعاف فرص حل الأزمات في الكثير من الأحيان، خاصةً في المناطق التي تمزقها النزاعات المسلحة وتستنفذ مواردها، على غرار منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

لقد ظل مفهوم التعددية القطبية موضوع نقاش منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة عام 1945، أو على الأقل يمكن القول أن هذا المفهوم لم يحظى بما يكفي من الاهتمام والتوظيف الكافِ لحل مجموعة من الأزمات الدولية والإقليمية وخاصة أزمات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتشكل، في هذا السياق، المنظمات التي أُنشئت في نهاية الحرب العالمية الثانية، مثل الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والاتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية والتجارة، جوهر ممارسة الدبلوماسية متعددة الأطراف. فعلى سبيل المثال، يقوم ميثاق الأمم المتحدة على قواعد دولية ومعايير تنطبق على جميع الدول دون تمييز، مثل مبدأ المساواة في السيادة، وحظر استخدام القوة، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية غير أن هذه القواعد تظل في غالب الأحيان حبرا على ورق.

تأثرت الدبلوماسية متعددة الأطراف كذلك بالمتغيرات التي طالت طبيعة النظام الدولي المتحول بعد نهاية الحرب الباردة، إذ أفضى التراجع النسبي للهيمنة الأمريكية إلى الزّج بالتعددية القطبية في حالة من الارتباك والغموض، في ظل هيمنة القوى العظمى على القرارات الدولية التي تراعي فقط سياسات هذه القوى ومصالحها الحيوية. وعادةً ما تقف القوى الإقليمية المضطربة، ومجلس الأمن الدولي المنقسم، عائقاً أمام عملية بناء وتحقيق الأمن والسلم الدوليين من داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة.

وفضلا عمَّا تقدم، أثرت أيضاً الطبيعة المتغيرة للنزاعات وحقيقة المشهد الجيوسياسي المتزايد التعقيد في قدرة المنظمات الإقليمية، مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي، ومنظمة التعاون الإسلامي على لعب دور مؤثر في حفظ السلام والأمن، إذ أن معظم النزاعات الدولية والإقليمية تدار بالإرادات الدول المفردة دون احتوائها من خلال أليات الدبلوماسية متعددة الأطراف. كما أن التنافس المحموم لقوى خارجية على النفوذ في دول مثل العراق، وليبيا، واليمن، وسوريا منذ حرب الخليج الأولى عام 1990 وبعد الانتفاضات العربية سنة 2011، قد عمق الخلاف حول آليات الدبلوماسية متعددة الأطراف، وخاصة بعد الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط، والتنصل من دورها في الأزمة الليبية.

وأدت المنافسات والتدخلات اللاحقة أيضاً إلى إشعال النزاعات وتفاقمها أو إطالة أمدها، وأعاقت كل أشكال التسوية السياسية. وما زال، إضافة إلى هذا، التنافس المتزايد بين محور إيران، والمملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة الأمريكية ومعها إسرائيل يهدد نظام الأمن الإقليمي. وانعكست العديد من هذه النزاعات الإقليمية وتداعياتها على دور الدبلوماسية متعددة الأطراف ومحدوديتها في المؤسسات الدولية، خصوصاً الأمم المتحدة، وتم التعامل معها من خلال القرارات والأجهزة والمبعوثين. كما أثبت الشرق الأوسط، على الرغم من ممارسة الولايات المتحدة الأمريكية لقدرٍ هائل من القوة والنفوذ خلال الفترة المعاصرة، أنه عصيٌّ على السيطرة، ولم ينسجم مع أي “شرعية للهيمنة” تمنحها الولايات المتحدة الأمريكية في الأساس، في مقابل مفهوم التعددية القطبية وممارستها (Falk 2016).

وأسهم الانسحاب الأمريكي الجزئي من المنطقة في توسيع حجم الفراغ الاستراتيجي الذي بسببه تتنافس القوى الخارجية من أجل الحصول على نفوذ أكبر داخل الدول المنهارة مثل سوريا، واليمن، وليبيا؛ بالإضافة إلى عامل التنافس في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي شكل عاملا أدى إلى إطالة أمد الفوضى الأمنية على المستوى الإقليمي، في ظل غياب تحالفات مستقرة.

سنحاول الوقوف، من خلال هذه الورقة، على أهمية الدبلوماسية متعددة الأطراف ودورها في منع نشوب وحلّ النزاعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومعرفة الأسباب والدوافع الكامنة وراء تعطيل أليات الدبلوماسية الجماعية.

التعددية القطبية: جبل الجليد

على الرغم مما حققته آليات دبلوماسية التعددية القطبية من إنجازات في بعض الحالات التي تمكنت فيها من منع نشوب النزاعات وفي الحرب على الإرهاب، فإن الحوكمة العالمية للقضايا مثل التغير المناخي، والهجرة والعلاقات التجارية، ما تزال تواجه تحديات جمة لا يمكن إحراز تقدم فيها إلا بالتعاون بين الدول ومعالجتها على أساس إنساني وليس من منظور المصلحة الضيقة للدول. وليس هناك بدائل حقيقية إلا من خلال تفعيل دور العلاقات متعددة الأطراف ومشاركة الدول والمنظمات الدولية في حل النزاعات المسلحة والحروب الأهلية.

غالبا ما شكلت الولايات المتحدة الأمريكية الضامن والحارس الفعلي للنظام الدولي، ولكن الإدارة الأمريكية ما فتئت تنتقص من قيمة المؤسسات الدولية (Gowan 2018)، حيث أنها انسحبت أو أعلنت عن خططها للانسحاب من هيئات الأمم المتحدة وأجهزتها: مثل مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، واتفاق باريس بشأن التغير المناخي سنة 2015؛ ومن المؤكد أن الخطة الأمريكية للانسحاب من الاتفاقات والمنظمات متعددة الأطراف قد أصابت منظومة هذه المؤسسات، التي تعاني من الهشاشة سلفاً، بخيبة أمل كبيرة.

إن الانتقال الحالي من نظام القطبية الثنائية إلى عالم متعدد الأقطاب ما زال لم يرق إلى المستوى المنشود إطلاقاً، ويرى بعض المحللين أن المؤسسات العامة الأقوى: مثل صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية وحتى البنك الدولي، قد أسهمت في تعزيز العولمة الاقتصادية، والليبرالية المتوحشة دون الاهتمام بالشعوب.

لقد قال الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، كوفي عنان، في خطابه أمام الدورة السابعة والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة: “لا يكفي التنديد بالنزعة الأحادية ما لم نتعامل كذلك وبشكل مباشر مع المخاوف التي تجعل بعض الدول تشعر بضعف استثنائي، لأن تلك المخاوف هي التي تدفعها إلى العمل الأحادي. ويجب أن نبيِّن أن تلك المخاوف يمكن حلها، وسوف تُعالَج، بفعالية من خلال العمل الجماعي المشترك” (Anan 2003).

توجد حالياً حاجة ملحة إلى المزيد من التغييرات في قواعد تدبير المنظمات الدولية من أجل تحقيق الحوكمة العالمية من خلال العودة لنظام التعددية القطبية. لقد أخذ التنافس المتجدد بين القوى العالمية يحل سريعاً محل التعاون الذي ساد بعد الحرب الباردة باعتباره الإطار المهيمن في الشؤون الأمنية الدولية. كما أن احتمالات نشوب نزاع بين القوى الكبرى قد طفا على السطح مرة أخرى، عبر إفراز ديناميكيات تصعيد جديدة وخطيرة، وبالمقابل بدأت تتآكل مساحة فرص الدبلوماسية وثقة المجتمع الدولي فيها في ظل تصاعد التوترات الناجم عن التقدُّم التكنولوجي وعدم الاستقرار النووي. وحتى من دون التورط في نزاعات مباشرة، بدأت القوى العظمى باستخدام ” التدابير الأقل من الحرب” سعياً لتحقيق غايات استراتيجية، وتقييم تأثير العولمة في مقومات الأمن الداخلي والخارجي، مع الكشف عن نقاط الضعف التي تعتري شبكات المعلومات، والترابط الاقتصادي، والاندماج المالي، وحتى البنية التحتية المشتركة الخاصة بالطاقة – وكل هذه المعطيات تزيد من خطورة التوترات الجيوسياسية.

لقد تحولت البيئة الدولية، على الرغم من بعض النجاحات المحدودة التي حققتها عمليات حفظ السلام بعد نهاية الحرب الباردة، إلى فضاء مفتوح للصراعات نتيجة تداخل الإرهاب مع الحروب الأهلية وتكريس الدول الفاشلة وأصبحت العمليات الإرهابية ومناطق النزاعات أكثر ترابطاً من أي وقت مضى؛ فبين عامي 2013 و2017، كانت 93% من إجمالي حوادث القتل المرتبطة بالنزاعات المسلحة، قد وقعت في الدول التي تنشط فيها جماعات متطرفة صنّفها مجلس الأمن الدولي بكونها تنظيمات إرهابية.

وتتركزّ كل موجات العنف بكثافة في منطقة الشرق الأوسط، حيث بلغت نسبة القتلى فيها 70% من إجمالي الضحايا خلال الفترة نفسها، وهذا الواقع يمثل تحدياً كبيراً للدبلوماسية متعددة الأطراف، نظراً إلى أن الموارد الاستراتيجية في المنطقة تجعلها مقاوِمة تاريخياً لإدارة القوة العظمى أو حتى الإدارة الجماعية لحل للنزاعات الإقليمية.

لقد تجاوز تداخل النزاعات المسلحة والإرهاب جهود الأمم المتحدة لحفظ السلام، ولا تستجيب الآليات الحالية لمواجهة تصاعد حدة النزاع والإرهاب معا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إذ أن نسبة ضحايا النزاعات في الدول التي تستضيف قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لم تشكل سوى 7% فقط من العدد الإجمالي لضحايا النزاعات بين عامي 2013 و2017، ما يعني أن العدد الأكبر من النزاعات لم يتم مقاربته من خلال آليات الدبلوماسية متعدد الأطراف. كما أن الإرهاب أو الحروب بالوكالة غالبا ما يعرقل تفويض مجلس الأمن الدولي بالمشاركة أو استعداده لتبني قرارات حاسمة تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

ولا تستطيع الأمم المتحدة، حتى مع وجود التفويض القانوني، تنفيذ التزاماتها القطعية في مثل هذه البيئة الشديدة التعقيد. كما أن محاولات المنظمات الإقليمية، كالاتحاد الأفريقي، لنشر بعثات لحفظ السلام بمساعدة سياسية ومالية من الأمم المتحدة تعاني من العديد من العراقيل أهمها صعوبة التمويل والالتزام بالمبادئ الدولية، بما فيها معايير حقوق الإنسان، ومن دون إدخال إصلاحات هيكلية، فستبقى الأمم المتحدة محدودة وغير قادرة على التدخل في حل الأزمات العاجلة.

فشل الدبلوماسية متعددة الأطراف: الأسباب والنتائج

أصبحت الدبلوماسية الجماعية وحل النزاعات أمراً صعب المنال في ظل استمرار الأزمات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويمكن الحديث عن العديد من العوامل التي تعوق القيام بعمليات أمنية متعددة الأطراف: أهمها اتساع الرقعة الجغرافية للنزاعات في السنوات الأخيرة، ما جعل العنف وممارسة العنف أكثر شيوعا في دول مثل سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا.

فقد وصلت عملية السلام في الشرق الأوسط إلى طريق مسدود بسبب اتساع فجوة انعدام الثقة بين القيادات الإسرائيلية والفلسطينية، حيث أصبح كلٌّ منهما مهتما أكثر بالحفاظ على دوائره الانتخابية كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل، وأقل احتراماً في الخارج مع استمرار الخلاف الفلسطيني بين حماس في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.

ويبدو أن العقد الاجتماعي فقد أهم عناصره وشروطه بعد مرحلة الربيع العربي، مما شكل تحدياً للسلطة السياسية حتى في دول مثل تونس التي يتواصل فيها الانتقال الديمقراطي الهش رغم الاستياء الاجتماعي والاقتصادي المتنامي وتدهور الوضع الأمني.

وعرفت بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تنامي لظاهرة العنف المزمن وضعف الحوكمة، في حين وسّعت الدول غير العربية، كتركيا وإيران نفوذها، على الرغم من الضغوط التي تمارس عليها، في حين اتضح أن الفاعلين الدوليين من خارج المنطقة هم أكثر انقساماً من ذي قبل وتفرقهم تناقضات في المصالح مما ينعكس على المسار الذي ينبغي عليهم اتّباعه لحل الأزمات بسبب اختلاف أولويات ومصالح كل منهم. 

ويمثل، من جهة أخرى، استمرار التنافس الإقليمي واحداً من العوائق التي تقف أمام إحياء الحوار الأمني متعدد الأطراف؛ فمن سوريا إلى العراق، ومن ليبيا إلى اليمن، أخذت الأزمات في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتفاقم بفعل النزاعات بالوكالة التي تورّطت فيها فواعل إقليمية، وأحياناً من خارج المنطقة، في تنافس محموم على النفوذ يقوم على مقاربة أمنية صِفرية النتائج.

إن جلب القوى نفسها للمنطقة في هذا السياق العدائي، يسهم في تقويض النظام الهش في الشرق الأوسط. وحتى في ظل هذه المؤشرات والمعطيات التي لا تدعو إلى التفاؤل، بادرت العديد من الجهات في السنوات الأخيرة إلى تقديم مقترحات تدعو لإعادة بدء الحوار الأمني متعدد الأطراف في المنطقة، باعثةً الأفكار التي ظلت تُطرَح دورياً في الدوائر الدبلوماسية والسياسية منذ نهاية عصر الثنائية القطبية. وتدعو إحدى هذه المقترحات إلى استكشاف إمكانية تفعيل الدبلوماسية متعددة الأطراف، في السياق المتوسطي وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، شبيهة بتلك التي ألهمت تجربة الاتحاد الأوربي.

وبينما تسود الفوضى في سوريا والعراق، تبزر ثلاث قوى رئيسية اليوم في الشرق الأوسط، هي المملكة العربية السعودية وإيران وتركيا. وهذه الدول الثلاث لها مصالح متشابهة تتعلق بمواجهة التهديد الإرهابي من قبل الجماعات الإرهابية المتطرفة كداعش وغيرها، ولكنها تتناقض مع بعضها في إدارة الأزمة السورية واليمنية مثلا.  إن الدافع الأول للقوى الإقليمية الثلاث هو ضمان أمنها وسيادتها وحماية حدودها ومواجهة التحديات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، حيث أطلقت المملكة العربية السعودية “رؤية 2030” لتغيير البوصلة في اتجاه اقتصاد متنوع ينأى عن الاعتماد الكلي على النفط. وتسعى تركيا كذلك إلى الخروج من تحت المظلة الأوربية والاضطلاع بدور محوري كفاعل إقليمي يساهم في تشكيل المنطقة وبناء تحالفات قوية باعتبارها وسيطاً بين أوربا وآسيا وأفريقيا. أما إيران، فإنها تحاول الهيمنة على المنطقة من خلال طموحاتها الثورية واستخدامها لازدواجية الدولة والثورة.

النزعة الإقليمية والنظام الجيوسياسي المتغير

لا يندرج العالم الإسلامي ضمن منظومة جيوسياسية موحَّدة، فالشرق الأوسط، بصفته مركزاً دينياً وتاريخياً وجغرافياً للعالم الإسلامي، يُعدّ ملتقى محوري للطرق العالمية ومجالا استراتيجياً حيويا تختلف بشأنه القوى الدولية والإقليمية، ولا تستطيع أي دولة مركزية في المنطقة أن تجمع القوى الفاعلة معاً ضمن تكتل إقليمي موحَّد. وإلى جانب بناء المؤسسات العربية الإقليمية وتطوير الهيئات ما دون الإقليمية منذ ثمانينيات القرن العشرين، انخرط الشرق الأوسط أيضاً في مشاريع تعاونية أخرى تجاوزت حدوده الجغرافية.

وقد ارتكزت بعض المنظمات الإقليمية على الهويات الجامعة بدلاً من فكرة “العروبة” اللغوية-العرقية، وأهم وخير مثال على ذلك هو منظمة التعاون الإسلامي التي أنشئت عام 1969 رداً على إحراق المسجد الأقصى في القدس الشريف. وباعتبارها منتدى للتعاون الإسلامي، لم يضم أعضاؤها المؤسسون (25 عضواً) الدولَ الأعضاء في جامعة الدول العربية فحسب، والتي كانت مستقلة في ذلك الوقت، بل انضم إلى المنظمة أيضاً تركيا وإيران والعديد من الدول المسلمة الأخرى من غرب أفريقيا (مثل السنغال والنيجر) ودولاً من آسيا، بما فيها باكستان، وأفغانستان، وماليزيا، وإندونيسيا.

لقد جعلت منظمة التعاون الإسلامي القضية الإسرائيلية-الفلسطينية محور تركيزها الرئيسي، كما شكلت في بعض الأحيان منبراً لمبادرات بارزة أخرى تعزز مفهوم الدبلوماسية متعددة الأطراف، بما في ذلك تبنّي اتفاقيات حقوق الإنسان والقضايا الأمنية. مع ذلك، شهدت المنظمة تبايناً في أجندة الدول الإسلامية في التعاطي مع الأزمات الإقليمية. فعلى سبيل المثال، أظهرت قمة كوالالمبور، التي عُقدت في ماليزيا عام 2019، انقساماً عميقاً في العالم الإسلامي؛ إذ سلطت القمة الضوء على الكوابح المفروضة على قدرة بعض الدول على التنقل بحرية بين مختلف التكتلات والتحالفات. كما أعربت المملكة العربية السعودية وبعض الدول الإسلامية الأخرى عن عدم رضاها عن محاولة ماليزيا إنشاء منبر آخر يمكن أن يُنازع منظمة التعاون الإسلامي التي تقودها الرياض. وأصبحت القمة مثيرة للجدل بعد أن رفضت ماليزيا تقديم الدعوة للمملكة العربية السعودية وحلفائها المقرَّبين في منطقة الخليج. ويُقال إن إيران وتركيا وقطر وباكستان كانت الدول المدعوة الرئيسية لحضور القمة التي ضمت أكثر من 400 عالم مسلم من جميع أنحاء العالم.

وتجدر الإشارة إلى أن معظم المنظمات الإقليمية في الشرق الأوسط، لم تحقق الأهداف التي من أجلها أنشئت، ويرجع الأمر لعدة أسباب قد تكون مرتبطة في الغالب بالأزمات البنيوية التي يعرفها العالم العربي والإسلامي والإخفاق في بناء تكتلات وحدوية قادرة على مواجهة التحديات.

وحسب بعض الاتجاهات النظرية حول “استقرار هيمنة الليبرالية الجديدة”، فإن غياب قوة إقليمية وحيدة مهيمنة في الشرق الأوسط (Lustick, 1997) واختلاف التقاطبات الإقليمية (Frazier and Stewart-Ingersoll, 2010: 738) قد يُعتبران من الدوافع الأساسية وراء الضعف المؤسساتي وإفشال مرونة التعاون الإقليمي إضافة إلى ارتفاع وتيرة التدخل الأجنبي في المنطقة ودور القوى الخارجية في إدارة الأزمات الإقليمية.

ومن منظور قانوني صرف، يمكن الوقوف على انعدام إرادة الدول الأعضاء لصياغة واختلاف أجنداتها التي تمنع من تبني قرارات ملزمة كما يتضح في مواثيقها. إن اعتماد هذه المنظمات على صيغة الإجماع، الذي يعطي كل دولة عضو حق النقض، يجردها فعلياً من أي سلطة حقيقية لفرض قراراتها على الدول الأعضاء.

قد انعكس هذا الأمر على إدارة الأزمات بشكل عقلاني وملزم. ففي اليمن مثلا، أصبحت التبعات الإنسانية مُفزِعة بعد أكثر من خمس سنوات من النزاع.  كما أن الطريق نحو التسوية السياسية صعباً ولا زال بعيد المنال. وأدت الأجندة الأحادية والأعمال والمشاريع الانفرادية المتعلقة بالقوى الخارجية المتورطة في النزاع إلى عرقلة عمل الأمم المتحدة غير ما مرة.

كما تم إحباط الجهود التي بذلها المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لليمن، مارتن غريفيث، لإيجاد إطارٍ للمزيد من المفاوضات. وخرق الوفد الحوثي اتفاق ستوكهولم في الحُديدة مدّعياً أن الأمم المتحدة لم تقدم ما يكفي من جهود لتنفيذ الاتفاق.

لقد تجاهلت جماعة أنصار الله الحوثي الإطار المرجعي للمحادثات، وأهمها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216، الذي يدعو الحوثيين إلى نزع سلاحهم والانسحاب من الأراضي التي احتلوها سنة 2014. كما أنه لا يعكس ديناميكيات النزاع على الأرض، ولا يضع الاتفاق في الحسبان، أطراف الصراع الأخرى من اليمنيين الذين يمكن أن يعمدوا إلى إفساد أي اتفاق ممكن.

إن تدخل القوى الإقليمية، بما فيها إيران، في النزاع اليمني يهدد بجر البلاد إلى دائرة الانقسام السني- الشيعي، فمنذ أبريل 2015، اعترضت البحرية السعودية في خليج عدن العديد من شحنات الأسلحة الإيرانية المتجهة إلى المتمردين الحوثيين. ورداً على ذلك، أرسلت إيران قافلة بحرية، الأمر الذي يزيد من خطر التصعيد العسكري. وما زال النزاع يُلحق خسائر فادحة بالمدنيين اليمنيين، حيث يعيش اليمن أسوأ أزمة إنسانية في العالم. فوفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، تجاوز عدد الضحايا المدنيين 15 ألف بين قتيل وجريح. وما زال 22 مليون يمني على الأقل في حاجة إلى مساعدات، وثمانية ملايين يواجهون خطر المجاعة، وأصيب أكثر من مليون يمني بوباء الكوليرا. وفشلت الأمم المتحدة في إيجاد خطة فعالة لإجراء تفاوض بنّاء بين الفصائل اليمنية المتحاربة. وقد نفّذ جميع مبعوثي الأمم المتحدة لليمن أجندتهم، معترفين بالمليشيات الحوثية المعارضة للحكومة اليمنية الشرعية ومتجاوزين قرارات مجلس الأمن الدولي، خصوصاً القرار رقم 2216.

كما لم تستطع المنظمات الإقليمية الأخرى كجامعة الدول العربية، منظمة التعاون الإسلامي ومنظمة دول التعاون الخليجي، أن تجد حلا متوافق بشأنه للأزمة اليمنية والسورية بسبب اختلاف التقاطبات والتحالفات والمصالح بين الأطراف الإقليمية والدولية.

وفي ليبيا، فشلت الدبلوماسية الغربية ومنظمة الأمم المتحدة بتعاقب كل المبعوثين الأمميين في تلمس سبل الحل للأزمة الليبية، وظلت طموحات الدول المتنافسة تذكي نيران النزاع وتستنزف موارد البلاد النفطية. إن إنجاح المعادلة السلمية لا يكمن في نجاح بعض المساعي الدبلوماسية فقط بل أيضاً تأمين مرور سلسل لمرحلة انتقالية وللتسوية السياسية في ليبيا. لقد تم الاحتفاء بالوصول إلى الاتفاق السياسي الليبي ما يعرف باتفاق الصخيرات وعلى الرغم من الإطراء الشديد للجهود الدبلوماسية التي بذلت، تم انتهاك اتفاق 2015 مراراً من قِبَل مؤيديه ومن قِبَل أعضاء الحكومة.

الأمر الذي يتغاضى الكثيرون عن الاعتراف به هو أن قرار الأمم المتحدة رقم 1970 هو نموذج من القرارات الخاطئة والملتبسة الذي كان له تأثير مباشر على خلخلة المشهد الليبي وانتشار العنف في البلاد. لقد دعا ذلك القرار إلى التدخل العسكري ضد القذافي في عام 2011، ومنذ ذلك الوقت، أُنفِقت الملايين من الدولارات وتم تخصيص مساحة زمنية طويلة لحل الصراع الذي لا تبدو له نهاية ولم تُسفِر تلك الجهود عن أي نتائج ملموسة، بل ساهمت في تشجيع المنظمات غير الحكومية على التقديم للمزيد من التمويل.

قدم المبعوث الخاص للأمم المتحدة غسان سلامة خريطة طريق جديدة لحل الأزمة الليبية تقترح إجراءات ومعايير تقييم واضحة، وأثنى عليها الدبلوماسيون الغربيون في الأمم المتحدة باعتبارها قفزة كبيرة إلى الأمام. ولكن لن يعترف أيٌّ من هؤلاء الدبلوماسيين بأن بعض جوانب خطة غسان سلامة تتعارض فعليا مع الاتفاق السياسي الليبي الذي تم التوصل إليه سابقاً بالتفاوض. فعلى سبيل المثال، اقترح غسان سلامة أن يختار برلمان طبرق مجلساً رئاسياً جديداً. ورداً على المخاوف من أن خريطة غسان سلامة ستخرق الاتفاق السياسي الليبي، قال سلامة ببساطة إنه أكثر اهتماماً بروح الاتفاق السياسي الليبي وليس بمعناه الحرفي. وبعد لقاءات مكثفة في تونس وغيرها مع العشرات من السياسيين الليبيين والدبلوماسيين الأجانب والجهات المؤثرة، تخلى غسان عن المقترح وأصبحت المبادرات الأممية تدور في حلقة مفرغة. إن تعاطي الدبلوماسية متعددة الأطراف ودور الأمم المتحدة في حل الأزمة الليبية يتضاءل بشكل كبير مما يفسح المجال مرة أخرى لمبادرات انفرادية للدول وبالمزيد من التقاطبات وخاصة بعد توقيع تركيا لاتفاقيات مع حكومة الوفاق الوطني تقتضي تلتزم أنقرة بمقتضاها إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا لدعم حكومة السراج وهذا ما قد يساهم في تكريس الوجود الخارجي بالإضافة إلى وجود فواعل دولية وإقليمية أخرى ترى في ليبيا عمقا إستراتيجيا لا يمكن التفريط فيه.

الخاتمة

يحتاج العالم إلى تكتلات متعددة الأقطاب ليجابه أصعب التحديات التي تواجهه؛ من التغيُّر المناخي والقضاء على الفقر إلى انتهاكات حقوق الإنسان وانتشار الأسلحة. دون أن تتجاوز التعددية القطبية احترام السيادة الوطنية التي تمثل مبدأً ثابتاً في ميثاق الأمم المتحدة، لذلك ينبغي على المؤسسات الدولية والإقليمية أن تضطلع بدور الوسيط الفعال والحقيقي في العمل على تمكين الهياكل المؤسسية من معالجة النزاعات المتواصلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إن استمرار غياب التعاون الإقليمي الفعال والبناء يساهم في ارتفاع وتيرة النزاعات ويشكل تهديدات أمنية كبرى في المنطقة. لكن يبدو أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منشغلة على نحو متزايد بالحفاظ على أمنها وسيادتها والدفاع عن أجنداتها المختلفة، على حساب الإصلاحات وسياسات المواءمة والتكيُّف التي تقتضيها التدبير العقلاني ومتعدد الأقطاب للأزمات الإقليمية مع ضرورة تطوير الجوانب العلائقية وتجنب التكتلات الجانبية التي تقوم على العداء لكيانات دولية تنتمي لنفس المنظومة.

ختاما، هناك حاجة متزايدة في الوقت الحالي لدور فعال وقوي للتكتلات الدولية والإقليمية لحل أزمات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفقا لمبادئ وقواعد القانون الدولي.  وينطلق هذا الالتزام القطعي من تفعيل دور مجلس الأمن الدولي وتحمل مسؤولياته بشكل كامل، كما على المنظمات الدولية والإقليمية أن تساهم بإنشاء آليات للحوار على المستوى الدولي والإقليمي لتسوية النزاعات بالوسائل السلمية والحوار من أجل ضمان أمن واستقرار هذا الجزء من العالم، ووضع حد لهذا العنف المدمر بتفعيل ديناميات المنافسة والحفاظ على ميزان القوى بين الدول قصد البحث عن حلول مشتركة وجماعية وعادلة وتمتين علاقات الجوار واستدامتها.

التعليقات

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم كشفه.