ما الذي أضافه مؤتمر برلين لحل الأزمة الليبية؟ وهل الموضوع هو مجرد صراع بين أطياف المشهد السياسي الليبي المتمثلة في حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج، والجنرال خليفة حفتر؟ أم أن الأمر يتعدى ذلك ليصل إلى مستوى النزاع الإقليمي المركب شديد التعقيد، والذي تتداخل فيه العديد من القوى الدولية والإقليمية، وتقف أمامه المنظمة الأممية والمبعوث الأممي غسان سلامة مكتوفي الأيدي غير قادرين على تحقيق أي تقدم ممكن في المسار السياسي والتسوية السياسة للأزمة؟
البيان الختامي لمؤتمر برلين على العديد من المخرجات الأساسية؛ أهمها وقف إطلاق النار بين أطراف النزاع، والالتزام بحظر الأسلحة المفروض بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1970 لعام 2011، وقرارات المجلس اللاحقة، بما في ذلك نقل الأسلحة من ليبيا، والعودة للعملية السياسية من خلال دعم الاتفاق السياسي الليبي كإطار عملي للحل السياسي في ليبيا.
كما يدعو البيان إلى إنشاء مجلس رئاسي فعال، وتشكيل حكومة ليبية موحدة وشاملة وفعالة يصادق عليها مجلس النواب، والقيام بإصلاحات للقطاع الأمني من خلال استعادة احتكار الدولة للاستخدام المشروع للقوة وتشكيل قوات أمن وشرطة وقوات عسكرية ليبية موحدة تحت سلطة مدنية مركزية بناء على محادثات القاهرة ومخرجاتها، بالإضافة إلى توقيع إصلاحات في القطاع الاقتصادي والمالي تؤكد على أهمية استعادة واحترام وحماية النزاهة والوحدة والحكم القانوني لجميع المؤسسات السيادية الليبية، لاسيما البنك المركزي الليبي، وهيئة الاستثمار الليبية، وشركة النفط الوطنية، وديوان المحاسبة.
يبدو أن مؤتمر برلين هدف إلى استرجاع دول الاتحاد الأوربي لزمام المبادرة في حل الأزمة الليبية بعد التدخل التركي في الأزمة، وتوقيع اتفاقيتين أمنية وبحرية مع حكومة الوفاق الوطني بقيادة السراج، ما اعتبر بمثابة تصعيد عسكري في ليبيا لدعم حكومة طرابلس وإحلال نوع من التوازن بين القوى المتصارعة وخاصة تلك الداعمة لخليفة حفتر. لقد اعتبر الاتحاد الأوروبي، من هذا المنطلق، أن مؤتمر برلين لن يسارع في جمع الأطراف المتصارعة على طاولة المفاوضات بقدر ما يمثل محاولة لجمع كلمة الأوربيين وتوحيد رؤاهم ومواقفهم المتناقضة بخصوص الأزمة الليبية وخاصة الموقفين الفرنسي والإيطالي اللذين يقفان على طرفي نقيض من الأزمة اعتبارا لدعم إيطاليا لحكومة الوفاق الوطني والدعم الفرنسي للجنرال خليفة حفتر، وهو ما يمكن تسميته بالشرعية السياسية مقابل الشرعية العسكرية التي جاءت بها المبادرة الفرنسية سنة 2017، والتي تعطي المصداقية للعمل العسكري اعتبارا لسيطرة حفتر على معظم الأراضي الليبية في الشرق والجنوب الليبيين.
بحث مؤتمر برلين، في كل المسارات وقسمها إلى مسارات أمنية وعسكرية، ومسارات اقتصادية ومالية، ما يعني أن الأطراف الحاضرة وخاصة القوى الفاعلة ترى في الأزمة الليبية فرصة لتحقيق مصالحها وطموحاتها وأجندتها الخاصة، وأيضا الحفاظ على المصالح الغربية في إمدادات النفط الليبي الذي لا يقع تحت سيطرة حكومة طرابلس، مع صعوبة بناء مؤسسات ليبية وطنية موحدة تحافظ على مصالح الليبيين في النفط.
كما يبدو أن مؤتمر برلين بتناقضاته وجدلية بيانه، يؤسس لعملية عسكرية وسياسية طويلة المدى، تستنزف مقدرات الدولة الليبية، وتعمل على إدامة حالة اللاسلم واللاحرب القائمة، وبصرف النظر عن البيان الختامي لمؤتمر برلين الذي كان فضفاضا وعاما لا يقف على مسافة موضوعية من حيث تحديد المسؤوليات وتسمية الأمور بمسمياتها، فقد كشف أن حكومة طرابلس لم يعد لها من داعمين سوى تركيا التي أصبحت القضية الليبية قضيتها المركزية حتى أمام الأحزاب المعارضة لها.
لم يسجل المؤتمر، من جهة ثانية، حضورا قويا للدول المغاربية، فدعوة تونس كانت متأخرة ووجود الجزائر لا يغير كثيراً بحكم دعوى الحياد، والمغرب لم تقدم له دعوة حضور، مما خلف استغرابا واستياء من الخارجية المغربية لإقصائه من المشاركة اعتبارا للدور الذي لعبته المملكة المغربية في توقيع اتفاق الصخيرات، والذي يظل لحد الساعة الإطار المرجعي الوحيد لتسوية الأزمة الليبية ناهيك عن تداعيات الأزمة الليبية على المحيط المغاربي والأفريقي من قبيل التهديدات الأمنية المتسارعة في المنطقة جراء انتشار المليشيات المتطرفة والجريمة المنظمة والاتجار في البشر والتهجير وغيرها من التهديدات الأمنية، مما يجعل من حضور الدول المغاربية في أي اتفاق أوتسوية أمرا ضروريا وحيويا لإعادة ترتيب أوراق المنطقة ومنع الانهيار الأمني.
كما يشكل مؤتمر برلين أرضية لتقسيم المنافع، من نفط وغاز، ومشاريع بنى تحتية، مع تفرعات أخرى أقل أهمية، وهي الخوف من تحول ليبيا إلى دولة فاشلة، ونقطة انطلاق لمئات الآلاف من المهاجرين نحو السواحل الأوروبية للبحر المتوسط؛ ويذهب البعض إلى دعم فرضية أن السيناريو السوري قد يتكرر في ليبيا، وعبر وكلاء الإرهاب أنفسهم، أو الحرب بالوكالة ودون أي تغيير في الوجوه أو الأساليب، وإرسال المرتزقة إلى المعارك إلى جانب كل طرف من الأطراف المتصارعة،
ويمكن اعتبار أن الأزمة الليبية هي أزمة أمنية بالأساس وتحتاج إلى مواقف حاسمة من قبل المنتظم الدولي ومن الليبيين أنفسهم، وفي حال التوصل إلى حلول أمنية وعسكرية وتشكيل قوات موحدة تحت سلطة مدنية مركزية، لن يكون الحل السياسي صعبا، بل سيتحقق في ظرف وجيز، وسيعرف الليبيون كيف يجتمعون على مصلحة وطنهم في ظل مصالحة وطنية شاملة.
تحوم إذن، بناء على ما تقدم، العديد من الشكوك حول مؤتمر برلين وفشله في العثور على أرضية مشتركة لحل اليات تنظيم السلطة والتداول على الحكم في ليبيا، والتعبير عن إرادة كل الأطراف المعنية بالصراع من أجل توحيد التصورات بخصوص الأزمة والقيام بما يلزم لوقف تسليح الجماعات المسلحة من مختلف التوجهات والأطياف السياسية، العقدية والقبلية وغيرها من جماعات مسلحة بدوافع مدمرة، بداية بمنع التدخل الخارجي وتأثير التقاطبات الدولية والإقليمية على المشهد الليبي.
كما أن التدخل التركي الأخير، بإرسال وحدات من القوات التركية بدأت في التحرك إلى ليبيا، لدعم حكومة الوفاق، بعد أن وافق البرلمان التركي بأغلبية على مذكرة تفويض للحكومة لإرسال قوات إلى ليبيا، ينذر بحرب بالوكالة جديدة تلوح في الأفق، ما يحتم على الطرف التركي وجميع الأطراف عن الإحجام عن التدخل في الحرب الأهلية الدائرة في ليبيا، ما قد يحولها إلى دولة فاشلة تحتاج إلى سنوات طويلة لبناء مؤسساتها وتحصين سيادتها الداخلية والخارجية. لم يقدم مؤتمر برلين رؤية واضحة لحل الأزمة الليبية وظل أطراف الصراع غائبين عن التوافقات، مما يعكس حقيقة تدويل الأزمة الليبية وضعف حظوظ التسوية السياسية في الوقت الحالي.
التعليقات