20 يناير 2020

التغيرات الديمغرافية: الأداة الجيوسياسية لسوريا ما بعد الحرب

بواسطة أمينه عثمانذزيكوفيتش

عادت في الآونة الأخيرة عمليات التهجير القسري للاجئين لتطفو على السطح مجدداً باعتبارها أداة جيوسياسية للترتيب لمرحلة ما بعد الحرب في سوريا. وكثيراً ما أُنجزت هذه العمليات بمساعدة قوانين تُرجح الاستعلاء العرقي والهيمنة الدينية والعرقية، وبالتلاعب بالتركيبة السكانية وجغرافية الأقاليم.

غالباً ما يتم الطعن في شرعية وقانونية هذه التدابير الانتقامية من قبل القانون الدولي، نظراً إلى أنها كثيراً ما تسبق إبرام معاهدات السلام بين الأطراف المتصارعة. وأياً كان الهدف الحقيقي من وراء تهجير أعداد كبيرة من السكان، فإن كل حالة من حالات التهجير القسري تُلقي عبئاً إضافياً على الجهود المبذولة للتخفيف من خطورة الصراع.

تؤثر عمليات التهجير القسري للسكان في سوريا تأثيراً عميقاً في تركيبة النسيج المجتمعي للبلاد، الأمر الذي يشير عملياً إلى ترتيبات لأوضاع نهائية لا رجعة فيها في سوريا ما بعد الحرب. ومن المتوقع أن يقف تعقد الأوضاع حائلاً أمام إرجاع السكان المشردين واللاجئين، إضافة إلى وجود تشابك معقّد بين عمليات النقل القسري للسكان ومشاريع إعادة التنمية. لقد دخل الصراع عامه التاسع تقريباً وما زال من الصعب التمييز بين الجهود الرامية إلى إحلال السلام وجرائم الحرب المحتملة المعاقب عليها بموجب القانون الدولي الإنساني.

تتحكم في خيوط التحولات الديمغرافية ثلاث مجموعات متنفذة، وهي: الحكومة والمعارضة والقوى الخارجية. ولكون الحكومة السورية هي اللاعب الأول المتحكم نسبياً في الرقعة الجغرافية، فقد جربت أثناء الصراع استخدام خططها لما بعد نهاية الحرب، واستخدمتها خاصة كأداة لاجتثاث المعارضة. إن استراتيجية التهجير القسري للسكان وطرد المعارضة ووضع خطة لإعادة الإعمار ما بعد الحرب، إضافة إلى تطبيق اللامركزية في تدبير الخدمات الحكومية؛ كل ذلك قد يؤدي إلى استحداث مناطق جغرافية متعددة في مختلف أنحاء سوريا.

وقد يتحقق هذا السيناريو بمساندة ودعم كاملين من جانب القوى الخارجية، مثل إيران وروسيا، نظراً لتورطهما في عمليات تهجير ونقل السكان. وقد يبدي المجتمع الدولي ردَّ فعل متخاذل تجاه هذه التغييرات، لأن المقاربة الدولية تحت مظلة منظمة الأمم المتحدة للأزمة السورية، ما زالت تقوم على منطق تهدئة الصراع وليس إنهاؤه والمرور لمرحلة إعادة الإعمار.

الأهداف السياسية

تَحدث عمليات التهجير القسري للسكان كنتيجة طبيعية للحروب والنزاعات المسلحة، خصوصاً في سيناريوهات الصراعات اللامتناهية والممتدة. ولا شك في أن التغيرات الديمغرافية الناجمة عن ذلك تؤثر في الهويات القبَلية، وتتسبب في وقوع مواجهات (مسلَّحة) في بعض الأحيان. إن مأسسة التغيير الديمغرافي المُمنهج في هذه الحالة قد يدفع بعض المراقبين إلى وصفه بالهندسة الديمغرافية التي ترمي إلى تحقيق هدف فوري مباشر يتلخص في تغيير ميزان القوى بين الحكومة والمعارضة.

لقد اكتسبت الجهود زخماً كبيراً بعد استعادة نظام الأسد للتفوق العسكري، الأمر الذي أدى إلى الاستغلال المكثف للمفاوضات التي جرت بوساطة روسية أو إيرانية من أجل التوصل إلى اتفاقات مصالحة. وعلى هذا الأساس يمكن رسم خط استراتيجي بين الاتفاقات المحلية لوقف إطلاق النار واتفاقات المصالحة. ففي الوقت الذي لم تكن فيه الحكومة تمتلك أي خطة للمفاوضات والوصول لاتفاقيات تنهي الوضع المشتعل، فإن نتيجتها كانت كسب السيطرة على الشعب والأرض.

من جراء ذلك، تنبعث حالياً سوريا جديدة من ركام الحرب، حيث تم إبعاد الكثير من التجمعات السكانية عن مدن بأكملها، والأمثلة الأبرز في هذا الصدد تتمثل في ما تعرضت له مدن دمشق وحلب وحمص، حيث تم تهجير الألوف من النازحين والمشردين وحشد أغلبهم في محافظة واحدة وإجلاؤهم إلى مدينة إدلب، معقل المعارضة السورية. لذا أصبحت سوريا الجديدة أكثر تجزئةً من الناحية الجغرافية. وفي إطار التغيير الديمغرافي الممنهج، كان هدف الحكومة هو إعادة الاستيلاء على الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة وإحكام السيطرة على الأراضي عن طريق التدابير الرسمية وغير الرسمية.

وكثيراً ما تضمنت هذه التدابير تدمير الممتلكات والاستيلاء عليها، وإصدار قوانين المناطق الحضرية والمراسيم المتمحورة حول التنمية، ومنع الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء. وما يزيد من تأكيد هذا النهج: (1) الحاجة إلى إعادة بناء المناطق التي مزقتها الحرب في سوريا، (2) حل مشكلة السكن العشوائي، الذي كان من ضمن أجندة الحكومة حتى قبل انفجار الصراع، (3) الحاجة إلى إنعاش النشاط الاقتصادي في المناطق التي تستطيع فيها الحكومة توفير الأمن.

في سبتمبر 2012 أصدرت الحكومة المرسوم رقم 66/2012 الذي يُجيز إنشاء منطقتين للتخطيط الحضري داخل محافظة دمشق، وينص أحد البنود الرئيسية في هذا المرسوم على عدم مطالبة أي شخص بإثبات ملكيته العقارية إلى أن يتم إنشاء منطقة تطوير جديدة؛ ويمكن تفسيره هذا الشرط بأنه محاولة لحماية حقوق الملكية العقارية للمالكين الذين لا توجد لهم حقوق مسجلة في السجل العقاري.

أما بالنسبة للمناطق التي تم فيها حرق السجلات العقارية أو سرقتها أو تدميرها، اعتمد مجلس الشعب السوري مشروع قانون رقم 33/2017 الذي ينظم عملية إعادة إصدار هذه السجلات. ووفقاً لأحد قضاة المحكمة العقارية، فإن 70% من الوثائق العقارية قد سُرِقت أو دُمِّرت خلال الحرب، لكن تم حل مشكلة 80% من هذه الحالات. غير أن الحكومة مارست ضغطاً اجتماعياً هائلاً على الذين اختاروا البقاء في مناطق تُعتبر مناسِبة لإعادة الهيكلة. ولعل القوائم الحكومية للتجنيد الإلزامي تعتبر مثالاً لهذه الظاهرة.

خلال الصراع الدائر بين الحكومة والمعارضة، أصبحت منطقتا داريا والمعضمية في ريف دمشق معقلين رئيسيين للمعارضة عند بداية الصراع. وفي أغسطس 2012، شنت القوات الحكومية هجوماً واسعاً على المنطقة، ما جعل تدميرها ثم هدمها حدثاً رئيسياً في الصراع. وفي عام 2012، دمرت القوات الحكومية منطقة بابا عمرو في حمص، الأمر الذي أسفر عن إبعاد نحو 35 ألف نسمة من السكان. لقد كانت المنطقة واقعة تحت سيطرة المعارضة في السابق. وتلى ذلك تدمير منطقة كرم الزيتون الذي أسفر عن إبعاد نحو 50 ألف من السكان.

وبعد أن أنهت القوات الحكومية هجومها في مناطق مثل البياضة والخالدية في مارس 2012، تم إبعاد أكثر من 190 ألف من السكان.

وفي أواخر عام 2013، تم أيضاً تشريد سكان مدينة القصير في ريف حمص على الحدود اللبنانية. وقد أدى الصراع إلى مقتل عدد كبير من سكان المدينة، حيث تراوح هذا العدد حسب بعض التقديرات ما بين 200 ألف و650 ألف نسمة، وهذه الأرقام تشير إلى أن العدد الأصلي للسكان لم يتبقّ منه سوى النصف تقريباً. وقد تم إجلاء ما تبقى من المدنيين والمقاتلين في وسط المدينة في سلسلة من عمليات تهجير ونقل السكان التي تمت تحت إشراف الأمم المتحدة.

يعتبر النظام القائم المستفيد الأول من التغييرات الديمغرافية لسوريا ما بعد الحرب. لقد بدأ إجراء التغييرات الديمغرافية من خلال عمليات عسكرية مدعومة من الخارج تستهدف المعارضة والمناطق التي تسيطر عليها، وإضفاء الطابع المؤسسي الرسمي من خلال استصدار سلسلة من المراسيم الموجهة نحو إعادة الإعمار وقوانين التطوير الحضري. وقد أسفرت هذه الإجراءات عن تغييرات ديمغرافية حادة يُعدّ حلّها ضرورة قصوى لمستقبل سوريا.

 العوامل المحلية

تبدو سوريا ما بعد الحرب أشبه بدولة منقسمة إلى مناطق تسيطر عليها الحكومة السورية ومناطق أخرى من البلاد من جهة حدودها الشمالية والجنوبية. وقد تصبح هذه الحالة أكثر تعقيداً مع استمرار تورّط القوى الإقليمية وغيرها من الفواعل في تمزيق الوضع القائم والهش. وبالإضافة إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، فإن المستفيدين الرئيسيين هم مؤيدو الحكومة في المجالس المحلية وبعض من أصحاب مبادرات الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجال إعادة الإعمار.

لقد ظلت الحكومة السورية تستغل اتفاقات المصالحة المحلية مع المعارضة من أجل فرض التغيير الديمغرافي وتوجيه الخطاب السياسي لما بعد الصراع في سوريا. وكان الهدف المباشر هو حصر مختلف الجماعات المعارِضة داخل منطقة واحدة وتعريضها لضغط أكبر وإحداث انشقاق بين مكوناتها، ومن ثَم تغيير ميزان القوى لصالح النظام السوري القائم.

وأدت، على نحو مماثل، آلية التنمية اللامركزية في المناطق المسترجعة واستخدام أسلوب الشراكات بين القطاعين العام والخاص إلى إحكام قبضة الحكومة على السلطة.

لقد تم تأسيس شركة دمشق الشام القابضة، المملوكة بالكامل لمحافظة دمشق، برأس مال سهمي يبلغ 60 مليار ليرة سورية لتطوير مدينة ماروتا. وبمقتضى هذا المرسوم الذي أنشئت بموجبه الشركة تم إعفاؤها من الضرائب ومنحها صلاحية إنشاء شركات تابعة لها أو شركات مساهمة، ما يمهد الطريق لنشوء اتحاد شركات. ووفقاً لتقرير صدر مؤخراً، فقد بلغ عدد عقود الاندماج ستة عقود، برأس مال إجمالي يبلغ 380 مليار ليرة سورية.

كما شرعت الحكومة في توقيع العديد من اتفاقات مصالحة مع جماعات المعارضة المسلحة،. وقد أسفرت المفاوضات عن الانسحاب الكامل للمقاتلين من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، ورافق ذلك تشريد عدد كبير من المدنيين، حيث أنه بين شهري فبراير ومايو 2014، تم التوصل إلى مجموعة من الاتفاقات لإجلاء مقاتلي المعارضة ومدنييها من حمص ودمشق.

وتم، في النهاية، إجلاء بعضهم إلى إدلب ومناطق أخرى متنازع عليها في شمال سوريا. مما تم، في أبريل 2017، تنفيذ اتفاق رئيسي كان قد أُبرِم عام 2015 بشأن أربع مُدُن متنازع عليها منذ فترة طويلة؛ وهي الزبداني ومضايا وكفريا والفوعة؛ وقد وقّعت على ذلك الاتفاق الجماعتان المتطرفتان، هيئة تحرير الشام وجماعة أحرار الشام من جهة، والحكومة السورية وإيران من جهة ثانية، ونص الاتفاق على ترحيل سجناء وسكان مضايا والزبداني إلى ريف دمشق مقابل ترحيل السكان من كفريا والفوعة إلى ريف إدلب.

تدل مثل هذه العمليات على أن الحكومة السورية تريد إرسال إشارات قوية إلى كل من المعارضة والمراقبين الخارجيين تفيد أن الحرب في سوريا قد انتهت وأن التركيز ينبغي أن ينصبّ على إعادة تنمية البلاد. كما ظلت الحكومة تعمل في الوقت نفسه على فرض القيود الديمغرافية والجغرافية على المعارضة المدنية أو المسلحة، بمساعدة القوات الروسية والإيرانية، وحصرها في محافظة واحدة، مرجحة إمكانية نشوب اقتتال داخلي بينها.

تُعتبر المناطق الواقعة على الحدود مع تركيا من بين المناطق الأكثر تضرراً بالصراع الدائر داخل سوريا. وأصبحت، في الآونة الأخيرة، المشكلة الكردية – السورية محور اهتمام النظام السوري، بعد أن لجأت قوات سوريا الديمقراطية الكردية إلى طلب حماية الحكومة السورية من الهجوم التركي عقب سيناريو ما بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من شمال سوريا؛ ونظراً إلى جدة هذا التحالف، فإن الحكومة تنوي إبقاء حالة الغموض في ما يتعلق بإدراج المناطق الكردية ضمن الجهود الوطنية لإعادة الإعمار. ومع ذلك، برزت الحكومة كشريك قديم – جديد للقوات الكردية في العمل من أجل السلام مع تركيا.

كما حاولت روسيا، في الآونة الأخيرة، ملأ الفراغ الذي خلّفه الانسحاب الأمريكي من شمال سوريا وبرزت باعتبارها فاعلاً دولياً ذا نفوذ جيوسياسي في المنطقة. وقدّم الروس ضمانات لكل من الأكراد والقوات التركية في “المنطقة الآمنة” التي تمتد من رأس العين إلى تل أبيض على الحدود السورية التركية.

وكان الهدف الرئيسي هو إخلاؤها من قوات “وحدات حماية الشعب” الكردية، وفي الوقت نفسه توفير حل لإعادة توطين أكثر من مليونيْ لاجئ سوري يعيشون في تركيا. وتمكنت الحكومة فعلياً، نتيجة لذلك، من توسيع نطاق نفوذها في ظل الضمانات القوية من قبل الشركاء الخارجيين.

 العناصر الخارجية

أدى التدخل الروسي في الحرب، منذ سبتمبر 2015، إلى تعزيز قدرة الحكومة السورية على تحويل الاتفاقات المحلية لوقف إطلاق النار إلى اتفاقات مصالحة مع المعارضة في حلب وحمص. لقد تقوَّت الحكومة السورية بالتدخل الروسي فاكتسبت قدرة أكبر على فرض حصارات وتطبيق قوانين التنمية وإعادة الإعمار، وبهذا وضعت الأساس لاتفاقات المصالحة؛ وعلى الرغم من أن الأشخاص الذين كانوا طرفاً في الاتفاقات قد مُنِحوا خيار البقاء في مناطقهم، فقد قيل للكثيرين منهم إن أسماءهم مُدرجة في القائمة الحكومية السوداء، الأمر الذي حدّ من حرية اختيارهم.

لقد سمح الفاعلون الخارجيون، مثل روسيا، للحكومة السورية بأن تشدد سيطرتها، ولذا فإن أغلب الذين شملتهم اتفاقات المصالحة قد أُجبِروا على الفرار إلى إدلب التي كانت المعقل الأكبر للمعارضة والأكثر سكاناً. ونصف سكان إدلب، البالغ عددهم مليوني نسمة، من المشردين داخلياً.

كما أن العديد من جماعات المعارضة المتنافسة في إدلب يعملون جنباً إلى جنب مع مقاتلي تنظيم القاعدة الذين سيطروا على أجزاء من المحافظة عام 2017. ومعظم الجماعات المعارِضة تعارض وجود هيئة تحرير الشام لأن وجودها يغذي أمل الحكومة السورية في نشوب اقتتال داخلي في منطقة ضيقة ومحصورة.

منذ السنوات الأولى من الصراع، تعاونت تركيا مع المعارضة في إدلب من أجل استحداث منطقة عازلة على طول حدودها. كما أن العديد من جماعات المعارضة في إدلب، خصوصاً الجيش السوري الحر، تلقى الدعم من تركيا، وهذا يزيد من تعقيد الهجوم التركي على القوات الكردية في المناطق المجاورة لإدلب، والتي كانت تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية وبدأت الآن تتحول إلى التعاون الكامل مع الحكومة أو الخضوع الكامل للسيطرة الحكومية؛ وعلى الرغم من أن روسيا وتركيا وإيران قد خصصت إدلب لتكون منطقة لوقف التصعيد عقب هجوم مشترك ضد هيئة تحرير الشام، فإن القوات الحكومية وروسيا كثيراً ما تستهدفها.

وبعد أن وُصِف ذلك بأنه انتصار دبلوماسي كبير لتركيا عام 2017، فإن الحكومة السورية اليوم تتهم تركيا بالاستمرار في الهجمات المتكررة على إدلب على الرغم من وقف إطلاق النار. وظلت، من الناحية الأخرى، إيران تمثل جزءاً لا يتجزأ من اتفاقات المصالحة بين الحكومة السورية المعارضة. فقد أوفدت إيران مفاوضيها على نحو منتظم لكي تضمن تمثيل مصالحها.

فعلى سبيل المثال، أدى “اتفاق المدن الأربع” إلى نقل الموالين للحكومة الشيعية في الأساس إلى مناطق أقرب إلى العاصمة، وفي الوقت نفسه أجبر السكان المعارضين على الهروب من الغوطة الشرقية في ريف دمشق إلى إدلب، ما أنهى سيطرة المعارضة التي استمرت لوقت طويل.

وسعت إيران، من خلال الاضطلاع بدورٍ في هذه الاتفاقات، إلى تعزيز نفوذها في سوريا ما بعد الحرب، وعلى نحو أكبر في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. مع ذلك، ظلت إيران صامتة إزاء التناوش التركي-الكردي في المناطق التي تشهد تنازعاً أكبر عليها.

وعلى نحو مماثل، كان جنوب سوريا على قدر كبير من الأهمية بالنسبة إلى العديد من القوى الأجنبية، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية والأردن وإسرائيل. وتحرص جميع هذه القوى على حماية الجماعات المتمردة في المنطقة.

فالمحافظة الجنوبية هي المنطقة الوحيدة في سوريا التي يحميها اتفاق لوقف إطلاق النار مدعوم أمريكياً، غير أن الولايات المتحدة الأمريكية قررت أن يظل موقفها غامضاً تجاه التغييرات الأخيرة داخل سوريا، نظراً إلى أن هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) لم تعُد مهمتها الأساسية في ما يبدو.

وثمة أسلوب آخر اتبعته الحكومة السورية في نهجها المنتظم لإحداث التغيير الديمغرافي؛ وهو اتفاقات إعادة التوطين المبرمة في مفاوضات جرت بوساطة روسية وإيرانية. فقد استُخدِم هذه الأسلوب لتشريد الجماعات المعارضة والسكان المتبقين وتهجيرهم قسراً.

كجزء من الشروط التي تم التفاوض عليها، طُلِب من أعضاء هذه الجماعات المغادرة على متن حافلات مصرَّح لها من الحكومة، تحت إشراف مراقبين من الأمم المتحدة ومستشارين عسكرين من روسيا.

لقد كان ذلك جزءاً من مجموعة من الاتفاقات التي تم التوقيع عليها بين شهري فبراير ومايو 2014 لإجلاء مقاتلي المعارضة والمدنيين من حمص القديمة ودمشق. وقد شُرِّد بعضهم في النهاية إلى شمال سوريا. وتكثفت، في الوقت نفسه، الضغوط الدولية على الحكومة السورية والمعارضة المسلحة، مع ارتفاع الدعوات الإنسانية لوقف الحرب ومنع المزيد من الخسائر في الأرواح.

حثّ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2139/ 2014 على ضخ المزيد من المساعدات الإنسانية لسوريا، داعياً جميع الأطراف إلى رفع الحصار عن المناطق المأهولة في حمص والسماح بإجلاء جميع المدنيين الراغبين في المغادرة. وكان الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كي مون، قد صرح بإن نحو 200 ألف شخص يعيشون تحت الحصار في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، و45 ألف في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، مضيفاً أن ما يصيب المرء “بصدمة عميقة” هو أن الجانبين يحاصران مدنيين باعتبارهم أداة جيوسياسية للحرب. وقد دعا قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2401 (2018) جميع الأطراف إلى رفع الحصار عن المناطق المأهولة فوراً، موسعاً نطاق القرار السابق ليشمل الغوطة الشرقية واليرموك والفوعة وكفريا.

ونظراً لتداخل كل هذه العوامل الداخلية والخارجية، فإن التحولات الديمغرافية الأخيرة في سوريا تكشف أنه ليس من قبيل الصدفة أن المناطق المدرجة ضمن مشاريع إعادة الإعمار كانت معاقل أساسية للمعارضة، في حين تصوِّر المصادر الموالية للحكومة أن المرسوم ليس سوى حسن تقدير اقتصادي لبدء إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الحرب، غير أنه لا يمكن الاستخفاف بمثل هذه التدابير أثناء الصراع، لأنها أيضاً تعرقل حق عودة المشردين واللاجئين إلى مواطنهم الأصلية، إضافة إلى أنها تزيد من تعقيد دور القوى الخارجية في عملية إعادة التنمية في الداخل السوري.

انقسامات ما بعد الحرب: السيناريوهات المتوقعة

ربما خُدع العديد من المهتمين بالاتفاقات المحلية لوقف إطلاق النار واتفاقات المصالحة ومشاريع إعادة الإعمار، وصدّقوا أن الحرب قد انتهت. وعلى الرغم من انخفاض وتيرة العنف والقتال بين الأطراف المتصارعة، لم يُحرز أي تقدم في الواقع في معالجة الأسباب الكامنة وراء الحرب أو في التوصل إلى مصالحة شاملة تعني كل الأطراف وتمهد الطريق للاتفاق الدستوري الذي قد يشكل بداية نهاية الأزمة السورية.

ونظراً إلى خطورة الوضع في سوريا، من المرجح أن يتم تطبيق أسلوب اللامركزية، واقعاً وقانوناً، في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، ما يؤدي إلى المزيد من تمزُّق المناطق المتنازع عليها. وسيتضح هذا بوجه خاص على طول الحدود الشمالية والجنوبية لسوريا وفي عدم الاستقرار الكامل والتقسيم الاجتماعي الاقتصادي للمحافظات على أسس دينية وعرقية وطائفية. كما أنه من السابق لأوانه أن يعلن أي طرف عن فوز قطعي بالسيطرة على الأراضي السورية، وربما يستغرق الصراع سنوات قبل أن يَخمُد، وتكون إدلب حينها قد تمزقت بين الحكومة والجماعات المعارضة.

ومن المرجح أن تصبح الحدود السورية العراقية ساحة مركزية للتجاذب بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. كما يتنازع على مرتفعات الجولان حالياً كل من إسرائيل وحزب الله والحكومة السورية؛ وعلى الرغم من ردة الفعل التركية العنيفة والانسحاب الأمريكي، فإن ما حاربت القوات الكردية من أجله في شمال سوريا قد يُعاد دمجه تحت سيطرة الحكومة.

وعلى الرغم من مشاركة روسيا وإيران في اتفاقيات وقف إطلاق النار ومحاولة تقريب وجهات نظر الأطراف لتحقيق التسوية السياسية التي تسبق عادة مشاريع إعادة الإعمار، فإن البلدين لا يملكان الموارد المطلوبة لتمويل مشاريع إعادة الإعمار ودوران عجلة التنمية في سوريا ما بعد الحرب. إن العامل الأساسي وراء مشاركتهما يتمثل في استمرار توجيههما للعملية السياسية وإصلاح المرافق الحيوية مثل دعم البنية التحتية الخاصة بقطاع النفط والغاز.

وبالتوازي مع دعوة الحكومة السورية للاجئين إلى العودة وإصدارها إطاراً قانونياً ينظِّم إعادة الإعمار، كانت روسيا تقود جهوداً للضغط على الدول الأوربية وغيرها من الدول من أجل تيسير عودة اللاجئين. غير أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 (2015) الذي يدعو إلى “إقامة نظام حكم يشمل الجميع ولا يقوم على نظام الطائفية… وإجراء انتخابات حرة ونزيهة… تلتزم بأعلى المعايير الدولية من حيث الشفافية والمساءلة”، يشير إلى أن تباين وجهات النظر داخل المجتمع الدولي من المحتمل أن يؤدي إلى تأخير الاستجابة لاحتياجات سوريا في مرحلة ما بعد الحرب.

علاوة على ذلك، أضاف الاتحاد الأوربي، في يناير 2019، أحد عشر شخصاً من رجال الأعمال البارزين وخمسة كيانات من سوريا إلى قائمة العقوبات لقيامهم بأعمال بناء على أرض انتُزِعت ملكيتها من سوريين نازحين. وقد أدى ذلك إلى توسيع الفجوة بين أهداف الفصائل المختلفة في سيناريو ما بعد الحرب في سوريا. وهذا هو ما يجعل الوضع في سوريا معقداً للغاية ويصعب تصحيحه، نظراً إلى خطورة الجرائم التي ارتُكِبت. وإذا ما ثبتت صحة عمليات النقل القسري للسكان، وحدوث تغيير في التركيبة الاجتماعية في سوريا على نحو لا رجعة فيه، فإننا سنكون ربما في مواجهة مأساة لم تتكشّف فصولها بعد.

باختصار، ستنبعث سوريا جديدة من ركام الحرب، وسيخيم سيناريو التقسيم الجغرافي والديمغرافي على المشهد السوري في ظل بيئة أقل أمناً، وستبقى كل جهود إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الحرب تحت رحمة اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين في أجزاء بعينها من البلاد وليس في كامل مساحتها البالغة 185 ألف كيلومتر. إن مستقبل سوريا سيتقرر بين المناطق الحكومية والمناطق المتنازع عليها بدرجة أكبر من غيرها حيث تلعب الفواعل الخارجية دوراً حاسما في الموضوع. وأخيراً، ستؤدي عملية التغيير الديمغرافي الجارية إلى إفراز الألاف من التجمعات السكنية المهجرة كما قد توفر تربة خصبة لمآزق أمنية محتملة.

التعليقات

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم كشفه.