لم يعد خطر التطرف والإرهاب المصاحب له يقتصر على دولة أو منطقة بعينها، وإنما بات ظاهرة عالمية، إذ أن التنظيمات المتطرفة والجهادية العابرة للحدود لا تستثني في عملياتها الإرهابية بلداً أو منطقة؛ ولا شك في أن التعقيد والتشابك الذي تتسم به ظاهرة التطرف والإرهاب قد انعكس بشكل أو بآخر على طبيعة الاستراتيجيات التي تتبناها الدول لمواجهتها.
وبالفعل هناك العديد من التجارب في هذا الشأن؛ فبعض الدول تولي أهمية للجانب الأمني والعسكري، بينما تركز أخرى على الجانب التشريعي والقانوني، وتدمج دول أخرى الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية ضمن استراتيجياتها العامة لمكافحة هذه الظاهرة، وتشرك جميع مؤسسات المجتمع، بداية من الأسرة ومروراً بمؤسسات التعليم والإعلام ومنظمات المجتمع المدني، ونهاية بالقطاع الخاص، في تنفيذ هذه الاستراتيجية، وهذا ما يمكن أن يطلق عليه المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية التي تعني تكامل جهود هذه المؤسسات مع جهود الدولة في مواجهة ظاهرة التطرف والإرهاب.
إن تنامي المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية في أي مجتمع من شأنها تعزيز الجهود الحكومية في مواجهة التطرف والإرهاب، لأنها تعني ارتفاع مستوى الوعي بين أفراده وتزايد الإدراك لدى مؤسساته بخطورة هذه الظاهرة من ناحية، وضرورة العمل على مواجهتها من خلال استراتيجية شاملة ومتكاملة من ناحية ثانية. وتقدم دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً مهماً للدول التي تنتشر فيها المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية بدرجة كبيرة، حيث تتكامل جهود المؤسسات المختلفة مع الدولة في التصدي لظاهرة التطرف والإرهاب؛ ولعل هذا يفسر حالة الاستقرار الشامل الذي تنعم به الإمارات على الصعد كافة.
وتأتي مؤسسات التعليم في مرتبة متقدمة ضمن الاستراتيجية الشاملة التي تتبناها دولة الإمارات في مواجهة التطرف والإرهاب، ليس فقط لأنها تقوم بدور رئيسي في تحصين الطلاب منذ الصغر ضد الفكر المتطرف، وإنما أيضاً لأنها تتعاون مع باقي مؤسسات المجتمع الأخرى، الأسرة والإعلام والمجتمع المدني والقطاع الخاص، في مواجهة التطرف والإرهاب، وبالشكل الذي يعزز من الجهود الحكومية في هذا الشأن.
وتسعى، في هذا السياق، هذه الدراسة إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، تتمثل في التالي:
أولاً: مفهوم المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية وأثرها في مكافحة التطرف والإرهاب
ظهر مفهوم المسؤولية الاجتماعية في الغرب كان يرتبط بالأساس بالدور الاجتماعي للشركات ومؤسسات القطاع الخاص، وهناك تياران مختلفان في تعريف هذا المفهوم:
وقد طرأت تغيرات عدة على هذا المفهوم منذ ظهوره في الغرب، ويمكن أن نميز في هذا الصدد بين أربع مراحل مهمة عرف فيها هذا المفهوم تطوراً ملموساً وهي:
ويتضح مما سبق أن مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات تحول من مجرد عمل خيري إلى ممارسة والتزام للشركات تجاه المجتمع الذي تعيش فيه، بل وأصبحت الشركات في وقتنا الراهن تتلقى بشكل متزايد ضغوطاً للامتثال باللوائح المتعلقة بحماية البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية، وساهم عامل المنافسة الكبيرة في السوق إلى تطوير المسؤولية الاجتماعية للشركات، وأصبح هناك تأكيد على العلاقة المتبادلة بين الجوانب الاقتصادية والبيئية والاجتماعية وتأثيرات أنشطة الشركات في البيئة المحيطة، وهو ما يطلق عليه اسم “المقاربة المتوازنة” التي تتبناها الشركات والمؤسسات، لمعالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، بطريقة تهدف إلى تحسين أوضاع الجماعات والمجتمع ( International Institute for Sustainable Development,2004).
1-1 الاتجاهات النظرية في تعريف المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية
هناك اتجاهات عديدة في تعريف المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية:
وينصرف، في هذا السياق، البعد الأخلاقي للمسؤولية الاجتماعية إلى عدة أمور، هي:
في ضوء الاتجاهات السابقة، فإن ثمة اتفاق بين العديد من الباحثين على أن انتشار المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية في أي مجتمع يشكل أهمية بالغة في تنميته وتطوره في مجالات مختلفة، إذ أن استمرار عمل أي مؤسسة في المجتمع، بغض النظر عن تخصصها، يشترط أن توجه أنشطتها لخدمة وتنمية المجتمع المحيط بها. كما تلعب المسؤولية الاجتماعية دوراً مهماً في استقرار الحياة للأفراد والمجتمعات، حيث تعمل على صيانة نظم المجتمع، وتحفظ قوانينه وحدوده من الاعتداء، خاصة إذا ما قام كل فرد وجماعة بالواجب والمسؤولية تجاه المجتمع الذي يعيش فيه – (العامري، 2006، ص 51-54)
كما تعد المسؤولية الاجتماعية، في الوقت ذاته، مطلباً مهمّاً من أجل إعداد النشء لتحمُّل دوره في المستقبل والقيام به خير قيام والمشاركة في بناء المجتمع، وتقاس قيمة الفرد في مجتمعه بمدى تحمله المسؤولية تجاه نفسه وتجاه الآخرين، بحيث يعتبر الشخص المسؤول على قدر من السلامة والصحة النفسية –(شريت، 2003، ص 25)؛ ولهذا، فإن المسؤولية الاجتماعية باتت معياراً مهماً ومؤشراً على تطور المجتمع ونموه، وهي مهمة يجب أن تقوم بها المؤسسات التثقيفية والتعليمية المسؤولة عن تنشئة المجتمع وخاصة فئة الشباب – (حجازي، مواجهة التطرف والإرهاب مسؤولية مجتمعية، 2019).
2-1 نحو مفهوم شامل للمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية
إذا كانت الاتجاهات السابقة تركز على جانب بعينه في مفهوم المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية، فإن هناك اتجاه بدأ يتبلور في السنوات القليلة الماضية، وينظر إلى المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية باعتبارها مفهوما شاملا له أبعاد تنموية ومجتمعية وأمنية وسياسية وأخلاقية وقانونية وخيرية – (ياسين، 2008، ص 33).
والمسؤولية الاجتماعية، وفقاً لهذا الاتجاه، هي حاجة اجتماعية؛ لأن المجتمع بأُسره وأجهزته ومؤسساته كافة بحاجة إلى الفرد المسؤول اجتماعياً، فارتفاع درجة إحساس أفراد المجتمع بالمسؤولية الاجتماعية والتزامهم بها تعد المعيار الذي يُمكن الحكم بموجبه على تطور ذلك المجتمع ونموه، وتنمية الشعور بالمسؤولية في نفوس أبناء المجتمع مهمة تقع على عاتق المؤسسات الاجتماعية المسؤولة عن تربية الأفراد وتنشئتهم – (عامر، المسؤولية الاجتماعية ودورها في بناء واستقرار المجتمع، 2019).
وتأسيساً على الاتجاهات والتعريفات النظرية السابقة، يرى الباحث أن مفهوم المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية هو مفهوم شامل، سواء بالنسبة لأهدافه العامة التي لم تعد تقتصر على الجانب الاجتماعي الضيق الذي صاحب المفهوم عند نشأته في الغرب، وإنما باتت تتضمن جوانب أخرى عديدة، اقتصادية وثقافية وبيئية وتربوية وتعليمية وأمنية، أو بالنسبة للأطراف المعنية بهذا المفهوم، فخلافاً للنظرة التقليدية التي كانت تقصر فيها المسؤولية الاجتماعية على القطاع الخاص، وتحديداً شركات ومؤسسات الأعمال، فإن المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية هي مسؤولية تشاركية بالأساس تتكامل فيها جهود أفراد المجتمع ومؤسساته المختلفة بما فيها الأسرة والمدرسة والجامعة والإعلام ومنظمات المجتمع المدني، مع جهود الدولة في مختلف المجالات.
كما أن انتشار المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية في أي مجتمع هو دليل على امتلاكه القدرة على التنمية والتطور ومواجهة التحديات المختلفة وخاصة في مواجهة التطرف والإرهاب، ويجسد في الوقت ذاته تماسك هذا المجتمع، لأن تعاون جميع الأطراف المعنية (الأسرة – المدرسة – منظمات المجتمع المدني – الإعلام) في تنفيذ الاستراتيجية العامة للدولة في مواجهة التطرف والإرهاب، إنما يسهم في ترسيخ أمنها الوطني الشامل.
ثانيا: المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية كمدخل رئيسي في مواجهة التطرف والإرهاب
انطلاقاً من هذا المفهوم الشامل يمكننا النظر إلى المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية بوصفها أحد المداخل المهمة في مكافحة التطرف والإرهاب، واستكمال الجهود التي تقوم بها الدول في هذا المجال، لأن المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية هي مسؤولية تشاركية تلتزم فيها كافة مؤسسات المجتمع بالقيام بدورها في هذا السياق، فعلى سبيل المثال، حينما يكون أفراد المجتمع أكثر وعياً وإدراكاً بخطورة ظاهرة التطرف والإرهاب، فإنهم يكونون أكثر قدرة على اكتشاف وفرز الأفكار المتطرفة التي تسعى التنظيمات الجهادية والإرهابية إلى نشرها وعدم التفاعل معها.
وحينما تقوم الأسرة بدورها في تنشئة الأبناء بشكل سليم فإنها تعزز لديهم الثقة في النفس وتنمي لديهم الإحساس العميق بالمسؤولية تجاه مجتمعهم، والمشاركة في تنميته والدفاع عنه في مواجهة أية تحديات تهدد أمنه واستقراره. وحينما تقوم المؤسسات التعليمية بدورها في بناء شخصية الطلاب وتشكيل مداركهم العامة، فإنها تحصنهم من أية أفكار متطرفة أو هدامة. الإعلام هو الآخر حينما يقوم بدوره التنويري والمعرفي فإنه يسهم في توعية أفراد المجتمع بخطورة التطرف والإرهاب، وضرورة الاصطفاف الوطني للتصدي له.
وضمن هذا السياق، تقوم مؤسسات التعليم بدور حيوي في تعزيز مفهوم المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية، من خلال دورها في تحصين ووقاية أفراد المجتمع من الأفكار المتطرفة، وكذلك تنويرهم وزيادة وعيهم بمخاطر الجماعات والتنظيمات المتطرفة. كما أنها تتعاون مع مؤسسات المجتمع الأخرى في القيام بهذا الدور المهم.
وقد تزايدت أهمية التعليم في مواجهة التطرف والإرهاب في السنوات الأخيرة، خاصة أن العديد من الحركات السياسية والأيديلوجية بدأت تنظر إلى التعليم بوصفه نافذة يمكن من خلالها غــرس وجهــات نظرهــا وقيمهــا فــي المجتمع، حيث تقوم الحركات المتطرفة باستغلال التعليم في تقديم تفسيرات متعصبة للديــن والثقافــة تســهم فــي زيادة عدم تقبل الآخر، كما تحرض على العنف والكراهية، ومن ثم فإن هناك حاجة ماسة إلى إدماج التعليم ضمن أي استراتيجية فاعلة لمواجهة التطرف العنيف – (اندرليني، التعليم والهوية ومنع التطرف، 2017. ص 8-9).
لقد بات اللجوء إلى التعليم كوسيلة للوقاية ومحاربة التطرف والإرهاب توجهاً دولياً متناميا من أجل فهم أعمق لظاهرة التطرف والإرهاب، حيث تزايد الاهتمام بالوسائل والجهود الرامية إلى معالجة البيئة المواتية للمتطرفين لنشر أيديولوجياتهم وتجنيد مؤيديهم. وترسخت قناعات العديد من دول العالم بأن التعليم هو أحد أهم الأدوات المهمة للوصول إلى الشباب، والعمل على تغيير مداركهم وتحصينيهم ضد التطرف. ولهذا أصبحت الحكومات تقوم بتمويل التدابير التي تكافح التطرف العنيف كجزء من برامج التعليم. كما يوصي البنك الدولي بتعزيز التعاون بين الحكومات وبين شركاء التنمية معًا لتحديد الطرق العديدة التي يمكن بها استخدام التعليم لبناء المرونة والحد من التطرف – (Samantha de Silva, 2016, p9).
كما يعد التعليم أحد المداخل المهمة التي يمكن استثمارها بكفاءة في مواجهة ظاهرة التطرف والإرهاب الفكري التي تجتاح العديد من المجتمعات، من خلال إعادة النظر في مناهج ومساقات التعليم المختلفة، بحيث تكون وعاء لتشكيل مدارك النشء والشباب، وتحصينهم من أية أفكار متطرفة؛ فالتعليم الجيد من شأنه أن يجفّف أي بيئة خصبة تستغلها جماعات التطرف والإرهاب لنشر أفكارها، فضلا عن أن التعليم يسهم في تنشئة النشء والشباب منذ وقت مبكر على منظومة القيم الإيجابية التي تحث على التعايش والوسطية والاعتدال وقبول الآخر، وتنبذ التعصّب والتطرّف والإرهاب – (بن ققة، التعليم خط الدفاع الأول في مواجهة التطرف والإرهاب 2017).
وبناء على ما تقدم، فإن تطوير منظومة التعليم في مراحلها المختلفة يمكن أن يشكل جدار صد قوي في مواجهة هذا الفكر المتطرف، ولهذا يطالب العديد من الخبراء بضرورة الاستمرار والتحديث المستمرين للخطط والبرامج والحملات التوعوية في المدارس؛ لتوعية الطلاب والطالبات من خطر الغلو والتطرف والإرهاب، ومخاطبتهم بلغة عصرهم، وتنبيههم إلى خطر التشدد والغلو – (الزايد، تحصين «عقول الناشئة» في ذمة التعليم.. الإرهاب لا يختطفهم، 2014).
وتؤكد منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، في السياق ذاته، على أهمية الدور الذي يمكن أن يقوم به التعليم في مواجهة التطرف العنيف، باعتباره يمثل قوّة إقناع كبيرة، خاصة إذا كان هذا التعليم يسعى إلى معالجة الظروف الكامنة التي تدفعُ الأفراد إلى الانضمام إلى المجموعات المتطرّفة العنيفة. وقد أصدرت اليونسكو عام 2018 دليلاً استرشادياً لصُانع السياسات، يوضح كيفية إسهام التعليم في إيجاد البيئة المناهضة للتطرف، وذلك من خلال غرس الوعي الكافي وبنائه لدى المتعلمين مما يمكنهم من مواجهة والتصدي للأفكار والآراء والمعتقدات المتطرفة ومحاربة الغلو والتشدد – (اليونسكو، 2018، ص 4).
وتقع على عاتق جميع أطراف العملية التعليمية مسؤولية كبيرة في مواجهة التطرف والإرهاب، فالمدرسة على سبيل المثال (إدارة، معلمين، مشرفين) عليها دور رئيسي في تبني حوار معتدل قائم على الثوابت ويحافظ على وطنية الشاب وانتمائه، وينمي مسؤولياته الدينية والوطنية – (الزايد، 2014).
كما أن الجامعة هي الأخرى باتت مطالبة بضرورة العمل على ربط مخرجات التعليم الجامعي بالاحتياجات الفعلية للمجتمع، والمساهمة في حل قضاياه ومشكلاته، ومنها مشكلة الإرهاب، وأن تسهم البيئة الجامعية في الأنشطة المؤدية إلى إزالة الإرهاب والعنف، وذلك من خلال إيجاد برامج تدريبية لتطوير الهيئة التدريسية والإدارية في مؤسسات التعليم العالي في المجالات التخصصية والتربوية والقيادية – (التويني، 2010، ص 212-263).
في الوقت ذاته، فإن المعلم يمثل أحد المحاور الرئيسية المهمة في توعية الطلاب بخطورة الفكر المتطرف، الأمر الذي يتطلب إخضاعه لمعايير عالية تقيّم توازنه الفكري، ومدى وسطيته، وقدرته على تعزيز مظاهر الانتماء والولاء، ونشر القيم الإيجابية، لا سيّما أنّ المعلم في الواقع التربوي لديه مجالات واسعة في تشكيل ضمير الشباب وطريقة تفكير الأجيال الناشئة – (الزايد، 2014).
كما يمكن للمعلّم أن يشكّل جسرًا بين المدرسة، والعائلات، والمجتمع المحلّي الأوسع لضمان عمل جميع الجهات المعنية نحو غايةٍ مشتركة لدعم ومساعدة المتعلّمين المعرّضين للخطر – (اليونسكو، 2018، ص 44-46).
ثالثا: المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية لمؤسسات المجتمع في مواجهة الفكر المتطرف – الإمارات نموذجاً
تقدم الإمارات نموذجاً لتنامي المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية بين أفراد ومؤسسات المجتمع المختلفة، وهذا يعد أحد أهم مقومات قوة الدولة، والتي تفسر ما تشهده من تنمية وتطور واستقرار شامل في مختلف المجالات، حيث أن التزام المؤسسات المختلفة وأفراد المجتمع بمسؤولياتهم تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه يرسخ تماسكه ويعزز من قدرته على مواجهة التحديات المختلفة، وفي مقدمتها خطر التطرف والإرهاب.
ولعل من أهم مظاهر انتشار المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية في ما يتعلق بمواجهة التطرف والإرهاب في الإمارات ما يلي:
تزايد الوعي المجتمعي بخطورة ظاهرة التطرف والإرهاب، وهذا ما تؤكده العديد من نتائج استطلاعات الرأي التي أجريت في الآونة الأخيرة، والتي أظهرت نتائجها وعي أفراد المجتمع الإماراتي بخطورة هذه الظاهرة، وأهمية التصدي لها. وقد أفاد، في هذا السياق، استطلاع رأي أجراه مركز “صواب” – وهو مبادرة إماراتية – أمريكية لمكافحة دعايات وأفكار الإرهابيين على الإنترنت، والترويج للبدائل الإيجابية المضادة للتطرف – حول دور الفرد في القضاء على الفكر المتطرف، ونشرت نتائجه في مايو 2019، بأن 36% من أصل 15 ألفاً و852 مشاركاً اتفقوا على أن تعزيز التسامح والانفتاح من أهم وسائل محاربة التطرف كأفراد، فيما رأى 30% ضرورة الإبلاغ عن أي حساب مشبوه، و25% اتفقوا مع المشاركة في حملات التوعية، بينما ذكر 10% أن هناك وسائل أخرى يمكن من خلالها للفرد أن يسهم في القضاء على التطرف – (عابد، تعزيز التسامح من أهم وسائل محاربة التطرف، 2019).
كما خلصت نتائج استطلاع آخر للرأي الذي أجراه “صواب”، نشرت نتائجه في يوليو من العام 2019، إلى أن 91% من المشاركين في الاستطلاع يرون أن مكافحة التطرف تبدأ من الأسرة والمجتمع، إذ بمقدورهما أن يعززا دور الفرد في هذا الصدد، فيما رأي 9% من المشاركين في الاستطلاع، البالغ عددهم أكثر من 3000، أن مكافحة التطرف مسؤولية مشتركة بين جهات عدة – (عابد، صواب يحدّد 5 وسائل لحماية الأبناء من الفكر المتطرف، 2019).
وتؤكد نتائج هذه الاستطلاعات عدداً من الأمور المهمة:
رابعاً: المسؤولية الاجتماعية لمؤسسات التعليم في الإمارات في مواجهة التطرف والإرهاب
تدرك دولة الإمارات أهمية دور التعليم في مواجهة التطرف والإرهاب، خاصة أن التعليم يشكل الأساس في بناء النشء والشباب وتشكيل مداركهم الفكرية، وكلما كانت منظومة التعليم مواكبة لتطورات العصر، ومنفتحة على ثقافات العالم، أسهمت في تنوير العقول وبناء الشخصيات السوية القادرة على مواجهة أية أفكار متطرفة أو دخيلة عن المجتمع. ولهذا تنبهت وزارة التربية والتعليم في الإمارات منذ وقت مبكر إلى خطورة تسلل الفكر المتطرف إلى المنظومة التعليمية، خاصة أن قوى التطرف والإرهاب عملت وما تزال على اختراق الحقل التعليمي والتسلل إليه بطرق مختلفة (ندوة التعليم والتطرف والإرهاب، وزارة التربية والتعليم بالإمارات).
وتقوم مؤسسات التعليم في الإمارات بدور محوري في مواجهة التطرف والإرهاب. كما تتعاون مع مؤسسات المجتمع الأخرى في هذا الجانب، بداية من الأسرة ومروراً بالإعلام ونهاية بالمؤسسات الدينية، الأمر الذي يؤكد الفكرة التي تنطلق منها الدراسة، وهي أن مواجهة التطرف والإرهاب الفكري هي مسؤولية مجتمعية وأخلاقية تتشارك فيها مختلف المؤسسات، وتتكامل مع الجهود التي تقوم بها الدولة في هذا الجانب المهم.
وهناك العديد من المبادرات التعليمية النوعية التي تم إطلاقها في الإمارات، وتستهدف التصدي للفكر المتطرف والتوعية من خطر الإرهاب، لعل أهمها:
مبادرة مادة “التربية الأخلاقية” التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة عام 2016، لمواجهة التطرف الفكري والانحراف الأخلاقي، والتركيز على بناء شخصية الشباب الإماراتي، وغرس القيم الإيجابية القائمة على مبادئ التسامح والاعتدال والانفتاح والتعايش بما يكفل التحصين الفكري للأجيال ضد أي تهديد أو خطر من قوى التطرف والظلام. ولا شك في أن هذه المبادرة، التي تستهدف إدخال مادة “التربية الأخلاقية” في المناهج والمقررات الدراسية تعكس الإدراك الكبير من جانب قيادة الإمارات، بأهمية دور التعليم في بناء الشخصية المتزنة المتمسكة بهويتها الحضارية والثقافية والمجتمعية، والمحصنة من أي أفكار متطرفة. (ولي عهد أبوظبي يطلق «التربية الأخلاقية»، لتعزيز التسامح، مجلس الوزراء بدولة الإمارات العربية المتحدة).
كما أن هذه المبادرة تسعى أيضاً إلى ترسيخ منظومة القيم الأخلاقية والإيجابية بين طلبة المدارس، كالتسامح واحترام الآخر والحوار الحضاري والتعايش السلمي بين الأمم والشعوب، وهي منظومة القيم التي من شأنها التصدي لثقافة الكراهية وما يتبعها من تطرف فكري وغلو وتشدد. (سليم، إبراهيم، “أقدر العالمية توصي بإنشاء مؤسسات متخصصة لعلاج التطرف والانحراف السلوكي”، 2014)؛
التعاون بين مؤسسات التعليم ومؤسسات المجتمع الأخرى في مواجهة الفكر المتطرف، ومن مظاهر ذلك التعاون: مبادرة “تطوير مناهج التربية الإسلامية” التي جاءت نتيجة تعاون وزارة التربية والتعليم مع الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، وذلك بهدف تعزيز المرجعية الدينية الصحيحة المعتدلة لدى الشباب، خاصة أن مناهج التربية الإسلامية كانت من أهم الوسائل التي استعملت في العقود الأخيرة من قبل المتطرفين للتلاعب بعقول شباب الوطن وتوجيههم نحو تنفيذ أجنداتهم وأغراضهم الخبيثة.
كما تهدف هذه المبادرة إلى صياغة خطاب ديني تعليمي تربوي يهدف إلى بناء الشخصية المتكاملة عند الطلبة، ويعزز قيم المواطنة والولاء، وذلك من خلال التوعية الفكرية بالمحاضرات الدينية والندوات التوعوية والملتقيات الثقافية التي تبني الطالب فكريا، وتحصنه من مفاهيم التطرف والعنف – (ملتقى الإمارات تطوق التطرف، 2018).
وهناك أيضاً مبادرة “مسودة مذكرة أبوظبي حول الممارسات الجيدة للتعليم ومكافحة التطرف العنيف”، وهي نتاج تعاون بين مؤسسات التعليم في أبوظبي ومركز هداية لمكافحة التطرف العنيف، وتركز هذه المذكرة على الطرق والأساليب التي يمكن تطبيقها من أجل تسخير التعليم كأحد الموارد لمنع التطرف العنيف ومكافحته ليستفيد منها واضعو السياسات، والمعلمون والتربويون ومنظمات المجتمع المحلي، والمنظمات غير الحكومية والآباء والأسرة – (مسودة مذكرة أبوظبي حول الممارسات الجيدة للتعليم ومكافحة التطرف العنيف، ص 1-2).
وهذه المسودة هي تجسيد واضح لطبيعة الدور الذي تقوم به مؤسسات التعليم بالتعاون مع مختلف مؤسسات المجتمع في مواجهة الفكر المتطرف، حيث تؤكد على ضرورة اشتراك قطاعات متعددة في المجتمع في موضوع التعليم ومكافحة التطرف العنيف، والتي تتضمن الحكومة ومؤسسات القطاع الخاص، والمنظمات غير الحكومية، ووسائل الإعلام، وُمنظمات المجتمع المدني والأسر، والمجتمعات المحلية، فالحوار بين المؤسسات التعليمية وبين هذه المؤسسات يضمن وضع برامج فعالة لمكافحة التطرف العنيف – (مسودة مذكرة أبوظبي حول الممارسات الجيدة للتعليم ومكافحة التطرف العنيف، ص 2).
وتؤكد هذه المسودة على أن التصدي للتطرف والإرهاب مسؤولية مؤسسات المجتمع بأكمله، فمؤسسات القطاع الخاص تمتلك مجموعة من الأدوات والمواد التي يمكن الاستفادة منها في دعم الحكومة والمدارس في مساعيها الرامية إلى إصلاح المناهج الدراسية وتعزيز القدرة على الصمود إزاء التجنيد ومنع التطرف المؤدي للعنف. أما وسائل الإعلام فيمكن أن تقوم بدور مهم في تعزيز المناهج التعليمية المعنية بمكافحة التطرف العنيف من خلال العمل على إعلاء الأصوات والقيم المهمة والتي تسهم في تنوير الطلاب وتحصينهم ضد أية أفكار متطرفة أما المجتمع المحلي فيمكنه أيضاً القيام بدور مؤثر وفعال قد يمتد لما هو أكثر من المدارس، فبإمكانه تنسيق جهود الخطاب المضاد لخطاب التطرف العنيف، وإعلاء صوته في المجتمعات المحلية، وذلك مع تقديم الدروس التي يتلقاها الطلاب في البيئات التعليمية الرسمية – (مسودة مذكرة أبوظبي حول الممارسات الجيدة للتعليم ومكافحة التطرف العنيف، ص 6-8)
إن الدور المهم الذي تقوم به مؤسسات التعليم في الإمارات لا يقتصر فقط على توعية وتحصين الطلاب من ظاهرة التطرف والإرهاب، وإنما يتضمن أيضاً العمل على تعزيز منظومة القيم الإيجابية التي تسهم في بناء شخصية الطلاب، وتنمية مداركهم وتعزيز قدراتهم على الفكر النقدي الذي يستطيع تمييز الفكر المتطرف والضال والذي لا يعبر عن ثوابت الدين الإسلامي الحنيف، ويتجاهل خصوصية المجتمعات العربية والإسلامية التي تميل بطبيعتها إلى التدين الفطري. وهذا ما تنبهت له “قمة أقدر” العالمية التي استضافتها أبوظبي عام 2017، تحت عنوان (تنمية العقول لازدهار الوطن)، حيث دعت في بيانها الختامي إلى إنشاء معاهد ومؤسسات وطنية متخصصة تعالج قضايا التطرف والانحراف السلوكي وفق منهج علمي تربوي قائم على علم استشراف المستقبل للتعرف على العوامل الأخلاقية والقيمية التي تساعد في مواجهة التطرف الفكري والانحراف الأخلاقي من خلال الالتزام بالعمل معاً وإقامة شراكات بين الحكومات العالمية ومؤسسات القطاع الخاص والمجتمع ككل من أجل مواجهة التحديات التي يواجهُهَا العالم إلى جانب الدور المهم لمؤسسات الأمم المتحدة واليونسكو عبر مكاتبها الإقليمية في دول العالم – (سليم، 2017).
في الوقت ذاته، تحرص مؤسسات التعليم في الإمارات، بالتعاون مع الجهات المعنية على حماية الطلاب الإماراتيين الدارسين خارج الوطن من الأمواج الفكرية والثقافية العاتية التي تواجههم، من خلال تنظيم سلسلة ملتقيات دورية في أهم العواصم التي يوجد فيها الطلبة الإماراتيون المبتعثون للالتقاء بهم والاستماع إليهم ولهمومهم، إضافة لتنظيم مجموعة من الندوات وورش العمل حول كيفية التعامل مع المخاطر الفكرية والثقافية في بلدان الاغتراب، وتحصينهم بالثوابت الدينية والوطنية الإماراتية (بالهول، 2017)
خامساً: دور مؤسسات التعليم في مواجهة التطرف والإرهاب في نظر النخب الإماراتية
تعتمد هذه الدراسة على مسح ميداني لعينة من النخبة الإماراتية عددها 300 شخص، وتشمل أربعة أصناف من النخب: أ- إعلاميين؛ ب- سياسيين؛ ج- جامعيين؛ د- إداريين. واستخدمت الدراسة وسيلة الاستبانة لجمع البيانات عن مواقف وإدراك النخبة لطبيعة انتشار المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية، وأثرها في مواجهة التطرف والإرهاب؛ وعليه تم تبويب الاستبانة إلى عدة محاور تعكس الاقتراب النظري المعتمد في هذه الدراسة للمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية بوصفها مفهوم شامل كما سبق الإشارة في الإطار النظري للدراسة.
وركزت هذه الاستبانة على توضيح طبيعة المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية للمؤسسات التعليمية في مواجهة التطرف والإرهاب، وذلك من منطلق أن دورها المهم والمحوري في هذا الجانب يتكامل بل ويتداخل مع الأدوار التي تقوم بها المؤسسات الأخرى، كالأسرة والمجتمع المدني والإعلام والقطاع الخاص.
وانطلاقا من تبني الدراسة لمفهوم شامل للمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية، طُرح سؤال عام على عينة النخبة لغرض قياس دور الحكومة والأفراد ومؤسسات المجتمع المدني بوجه عام في القيام بمسؤوليتها الاجتماعية والأخلاقية، فجاءت النتائج على النحو التالي، كما يوضح الجدول أدناه:
دور كبير جداً | دور كبير | دور قليل | لا دور | |
الحكومة | 49% | 30% | 15% | 5% |
جمعيات النفع العام | 35% | 38% | 10% | 17% |
الأفراد | 30% | 40% | 20% | 10% |
القطاع الخاص | 25% | 28% | 30% | 18% |
أما في ما يتعلق بدور مؤسسات التعليم في مواجهة التطرف والإرهاب، فقد طُرح السؤال التالي على عينة البحث: ما مدى توافق وانسجام مناهج وزارة التربية والتعليم في دولة الإمارات مع سياسة الدولة في مكافحة التطرف والإرهاب؟
وأظهرت نتيجة الإجابة على هذا السؤال – كما يوضح الجدول أدناه – أن 6 من كل 10 أفراد من الفئة المستطلعة آراؤهم يرون أن مناهج وزارة التربية والتعليم في دولة الإمارات تنسجم مع سياسة الدولة في مكافحة التطرف والإرهاب. وأن 40% من أفراد العينة يعتقدون أنه ما زال على المؤسسات التعليمية أن تبذل مجهوداً أكبر من أجل تكييف برامجها وسياساتها التعليمية من أجل بلوغ تلك الغاية.
التوافق | النسبة |
كبير جداً | 31% |
كبير | 29% |
إلى حد ما | 20% |
ضعيف | 12% |
ضعيف جدا | 8% |
تعكس هذه النتائج من جهة كل التغيرات التي حدثت في السنوات الأخيرة في مجال السياسات التعليمية من مناهج وطرق تدريس وسياسات توظيف في هذا القطاع، إذ تم تغيير محتويات كثير من المواد ذات الصلة بالتربية والقيم مثل محتويات كتب التربية المدنية والدينة، وإدخال مواد تعليمية جديدة مثل التربية الأخلاقية، كما أنه جرى تنفيذ العديد من المبادرات والاتفاقيات مع مؤسسات مجتمعية وحكومية (وزارة الداخلية مثلا) تصبو كلها إلى هدف توعية النشء وحمايته من مخاطر التطرف والإرهاب.
خاتمة
في ضور هذه النتائج نخلص إلى التأكيد على أهمية العمل على تطوير المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية لمؤسسات التعليم، باعتبارها تقوم بدور رئيسي وفاعل في مواجهة التطرف والإرهاب، خاصة أن هذه المؤسسات حينما تقوم بهذا الدور تتعاون مع باقي مؤسسات المجتمع في تنفيذه، الأمر الذي ينطوي على أهمية بالغة في بناء أي استراتيجية شاملة لمواجهة التطرف والإرهاب، ولاسيما أن الدور الذي تقوم به مؤسسات التعليم في هذا السياق يركز على الجانب الوقائي من الفكر المتطرف من خلال توعية الطلاب بمخاطر هذا الفكر أو من خلال ترسيخ منظومة القيم الإيجابية والأخلاقية التي تحصنهم ضد أية أفكار متطرفة أو دخيلة على المجتمع.
قائمة المراجع
الصحف والمواقع الإلكترونية
المراجع الأجنبية
التعليقات