قامت الولايات المتحدة الأمريكية عام 2018 بفرض تعريفات جمركية بموجب المادة 232 على واردات الصلب والألومينيوم القادمة من الخارج بواقع 25٪ على الصلب و10٪ على الألمنيوم؛ وشملت الصلب المطلي، والسبائك، والألمنيوم، والأنابيب التي تُستهلك بكثافة في قطاعي الصناعة والتشييد، لكونها تهدد الصناعات المحلية الأمريكية وأمنها القومي.
ورداً على هذه التعريفات الجمركية، أعلنت مجموعة من الدول بما فيها الصين والاتحاد الأوروبي وروسيا والهند واليابان وتركيا، فرض تعريفات مضادة على واردات محددة من الولايات المتحدة، حيث أصدر الاتحاد الأوروبي – مثلاً – قائمة بـ 10 منتجات أمريكية بما فيها المشروبات الكحولية، والدراجات النارية التي أخضعها لتعريفات جمركية رداً على الخطوة الأمريكية.
وتعديلاً لقرار عام 2018 وإتماماً له، أصدر الرئيس الأمريكي أواخر يناير عام 2020 أمراً تنفيذيا بفرض رسوم جمركية إضافية على مُنتجات جُزئية مُصنعة من الصلب والألمنيوم بواقع 25٪ على المنتجات من الصلب، وبواقع 10٪ على المنتجات من الألمنيوم. كما حدد القرار قائمة الدول التي تم استثناؤها؛ وهي الأرجنتين، وأستراليا، والبرازيل، وكندا، والمكسيك، وكوريا الجنوبية. فما هي إذاً أبعاد هذا القرار ودلالاته وانعكاساته، وكيف سيؤثر على مستقبل التجارة العالمية الخاصة بقطاع تصنيع الصلب والألومنيوم وعلاقة الولايات المتحدة بشركائها التجاريين.
أولاً- دوافع القرار الأمريكي
تُستخدم التعريفات الجمركية كوسيلة لتحقيق جملة من المخرجات للاقتصاد الوطني في الدولة التي تفرضها؛ ومن بينها حماية الصناعات الوطنية، ولاسيما تلك الناشئة أو غير القادرة على منافسة الواردات الأجنبية في السوق المحلية، إضافة إلى بعض العوامل المرتبطة بحماية المستهلكين أو حتى بالأمن القومي، ويمكن إجمال دوافع القرار الأمريكي في ما يلي:
ثانياً- المتضررون والرابحون من القرار الأمريكي
تتصدر، وفق إحصائيات التجارة الخارجية، كل من كندا والصين ودولة الإمارات العربية المتحدة على التوالي قائمة الدول التي تستورد منها الولايات المتحدة الأمريكية الألمنيوم. وشكلت واردات الولايات المتحدة من الألمنيوم من الدول الثلاث نحو 12.8 مليار دولار أمريكي عام 2018، أي بواقع 53.1٪ من إجمالي واردات الولايات المتحدة الأمريكية من الألمنيوم للعام نفسه، كما هو موضح في الشكل التالي:
واردات الولايات المتحدة من الألمنيوم لعام 2018
المصدر: http://www.worldstopexports.com/us-aluminum-imports-by-supplying-country
صادرات الألمنيوم حسب الأقاليم والقارات
المصدر: http://www.world-aluminium.org/statistics/primary-aluminium-production
وفقاً للبيانات التي أصدرها المعهد الدولي للألمنيوم “International Aluminum Institute”، تتصدر كل من الصين، ودول مجلس التعاون الخليجي قائمة الدول المصدرة للألمنيوم عالمياً. كما تُشير البيانات إلى أنه في الوقت الذي شهدت فيه قيمة الصادرات الكندية والصينية من الألمنيوم إلى الولايات المتحدة تراجعاً قدرت نسبته بنحو 3٪ و14.5٪ لكل منهما على التوالي خلال الفترة من 2017-2018 في حين عرفت الصادرات الإماراتية من الألمنيوم إلى الولايات المتحدة نمواً قُدر بنحو 4٪ خلال الفترة نفسها؛ فيما احتلت البحرين المرتبة السابعة ضمن قائمة الدول المصدرة للألمنيوم إلى الولايات المتحدة حيث بلغت الواردات الأمريكية من الألمنيوم البحريني نحو 687.4 مليون دولار أمريكي، وبمعدل نمو بلغ نحو 10.8٪ خلال الفترة من 2017-2018 [2].
وبناءً على ما سبق يتضح أن الدول الأكثر تضرراً من القرار الأمريكي هي الدول نفسها الأكثر تصديراً للألمونيوم إليها؛ وهي كندا، والصين، والإمارات والمكسيك، علماً بأن كندا والمكسيك تم استثنائهما من القرار، لكن الخسائر لم تقتصر على هذه الدول التي قد تتأثر صادراتها إلى الولايات المتحدة، بل إنها تمتد لتشمل الأمريكيين أنفسهم، لأن فرض تعريفة جمركية على واردات الألمونيوم من الخارج سيفيد المنتجين الأمريكيين لكنه سيضر المستهلكين الذين سيعانون من ارتفاع أسعار السلع المصنعة من الألمونيوم والصلب بسبب الرسوم الجمركية عليها. كما أنه قد يضر بجودة المنتجات التي يحصل عليها المستهلك الأمريكي.
ثالثاً: تأثيرات القرار الأمريكي
التأثيرات على الاقتصاد الكلي: رغم بعض الفوائد التي تحققها التعريفات الجمركية في ضبط الاقتصادات الوطنية وتوجيهها، ومعالجة بعض الاختلالات التجارية، فإنه يترتب عليها في المقابل بعد النتائج السلبية؛ فوفق بيانات صندوق النقد الدولي تؤدي التعريفات الجمركية إلى تحويل التجارة والنشاطات الاقتصادية إلى المنتجين غير الأكفاء. كما أنها تشجع عملية التهريب ما بين الحدود للتهرب من هذه التعريفات. وتؤدي هذه التشوهات إلى الحد من الرفاهية العامة علاوة على أن المستهلكين يخسرون أكثر من التعريفة مما يربح المنتجون، لذلك هناك ما يسمى بـ “Deadweight Loss” أي التكلفة التي يتحملها المجتمع الناجمة عن عدم كفاءة السوق. وتؤدي التعريفة كذلك إلى إعادة توزيع الدخل ما بين العوامل والفاعلين الاقتصاديين مما يؤدي إلى إنشاء تكتلات خاصة ذات مصالح مترابطة. كما قد تؤدي السياسات الحمائية الواسعة إلى ردود أفعال تجارية انتقامية من الدول الأخرى مما يضيف المزيد من التكاليف والخسائر الاقتصادية في الأسواق العالمية.
وفي حال كانت التعريفة مفروضة على المدخلات في عملية الإنتاج – وهو الوضع في هذه الحالة – فإن الخسائر المذكورة ستتفاقم كونها ستضاف إلى تكاليف الإنتاج في السلع الأخرى. وبالنظر إلى حقيقة أن التعريفة الجديدة التي فرضتها واشنطن ستؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج في قطاع الصلب والألمنيوم، وكونه يعتبر مدخل رئيسي في كثير من عمليات الإنتاج لكثير من القطاعات، فإن ارتفاع الأسعار سينتقل إلى سوق التجزئة وفي نهاية المطاف سينعكس على أسعار المستهلك؛ لأن تجار التجزئة سيقومون بزيادة الأسعار. وهذا التطور قد يدفع بنك الاحتياطي الفيدرالي للولايات المتحدة إلى تسريع وتيرة رفع أسعار الفائدة لاحتواء التضخم وتجنب المخاطرة بحدوث تباطؤ اقتصادي.
التأثير على الشركات والمؤسسات الاقتصادية: طلبت الشركات الأمريكية العاملة في صناعات الصلب والألومنيوم من الإدارة الأمريكية فرض تعريفات جمركية على واردات البلاد من هذه المنتجات لحماية الصناعة المحلية، ومن هذه الشركات، شركة United States Steel وشركة Century Aluminum وشركة Whirlpool، حيث كانت تشكو منذ فترة طويلة من المنافسة الأجنبية غير العادلة[3].
كبريات الشركات المتجة للألمنيوم في الولايات المتحدة بحسب حجم المبيعات
ولا شك في أن منتجي الصلب في الولايات المتحدة قد استفادوا من التعرفة، حيث حققت شركة Reliance Steel & Aluminum وشركة Nucor مبيعات قياسية في عام 2018 عندما صدر قرار التعريفة الأول. أما الشركات الأمريكية المستهلكة للصلب مثل “هارلي ديفيدسون”
و”جنرال موتورز” و”جنرال إلكتريك” فقد اضطرت إلى تعديل سلاسل التوريد الخاصة بها مع تقلص هوامش الربح، ومن بين أكثر القطاعات تضرراً هو صناعة البناء والتشييد كونها تشكل 40٪ من الطلب على الصلب في الولايات المتحدة، يليه قطاع صناعة السيارات الأمريكية الذي استحوذ على 26٪ من الطلب على الصلب عام 2017.
أما التأثير على الشركات العالمية المنتجة للحديد والصلب، فلا شك أنه سيكون سلبياً، لأن قدرة هذه الشركات على الوصول للسوق الأمريكي الضخم والمنافسة فيه ستتراجع بصورة كبيرة، مع إعطاء ميزة تنافسية أفضل للشركات المحلية الأمريكية كما سبق التوضيح.
فعلى سبيل المثال، قامت الشركات الصينية ببناء قدرة إنتاج ضخمة للحديد والصلب في الصين بما مكنها من أن تصبح أكبر منتج للصلب بحجم إنتاج بلغ 928 مليون طن عام 2018 أي بزيادة 6.6٪ عن العام الذي سبقه[4] الأمر الذي أدى إلى تسارع نمو صادرات الصين من هذه المنتجات بشكل جعلها تتعرض لاتهامات بأنها تتبع سياسات إغراق للأسواق العالمية. ومن شأن هذه التعريفات أن تؤثر على صادرات الصلب الصينية إلى الولايات المتحدة، لكن تأثيراتها الكلية على الاقتصاد الصيني لن تكون كبيرة بالنظر إلى محدودية حجم الصادرات الصينية من الصلب إلى السوق الأمريكية، أما التأثير الأخطر فيمكن أن يأتي من تراجع الطلب داخل السوق الصيني نفسه، نتيجة تراجع النمو، أو إذا لجأت دول أخرى إلى اقتفاء أثر الخطوة الأمريكية.
أما الشركات الكندية، فكان يتوقع أن تكون هي المتضرر الأكبر بالنظر إلى حقيقة أن السوق الأمريكية شكلت ما نسبته 82٪ من إجمالي صادرات الحديد والصلب الكندية في عام 2018، لكن استثناء كندا من تطبيق القرار جعلها هي وشركاتها من المستفيدين من القرار الأمريكي، نظراً لأن تنافسيتها مع الواردات الأجنبية القادمة من الدول الأخرى المفروض عليها الرسوم الجمركية ستكون أعلى.
التأثيرات الاستثمارات والتجارة والقطاع المالي العالمي
كان هناك توجس من أن يؤدي القرار الأمريكي إلى ردود انتقامية من الشركاء التجاريين لأمريكا – مما كان سيفرض على الولايات المتحدة الرد على هذا التهديد الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى انعكاسات سلبية على الاقتصادين الأمريكي والعالمي. فمن حيث التأثير على هيكل التجارة سيؤثر قرار التعرفة على واردات منتجات المعادن الأساسية إلى الولايات المتحدة التي سينخفض حجمها بسبب هذا الإجراء الحمائي.
ومن حيث التأثير على الاستثمار فإن التعرفة الجمركية تخلق حالة من عدم اليقين مما يؤثر سلبا على الاستثمار الأجنبي المباشر في الولايات المتحدة، ولكن من ناحية أخرى قد تقوم الشركات التابعة للدول المفروض عليها التعريفية بتغيير مقارها إلى الولايات المتحدة كي تتفادى التعرض للضريبة، وهذا بدورة قد يزيد من نسبة الاستثمار الأجنبي المباشر في الولايات المتحدة.
فخلال الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة انخفضت الاستثمارات الأجنبية في الأخيرة بواقع 90% في النصف الأول من عام 2017، إلى 1.8 مليار دولار. كما باع المستثمرون الصينيون 9.6 مليار دولار من الأصول الأمريكية، مما أدى إلى تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل سلبي من الصين إلى الولايات المتحدة[5]. وبالنسبة للقطاع المالي فإنه سيؤدي إلى مزيد من الذبذبة في أسواق الأسهم [6]كما ستؤدي حالة عدم اليقين إلى تقليص هامش السياسة المالية[7].
وفيما يتعلق بالتأثير على الاقتصاد الأوروبي، قد تؤدي التعريفية إلى تنخفض صادرات الاتحاد الأوروبي من المنتجات المعدنية إلى الولايات المتحدة نوعا ما، لكن التأثيرات الإجمالية على إجمالي الصادرات الأوربية ستكون أصغر بكثير بسبب الأهمية “النسبية” لقطاع المعادن في هيكل الصادرات الأوروبية. وكذلك الحال بالنسبة لليابان حيث يتوقع أن يكون التأثير على الصادرات والقطاع الإنتاجي صغيراً كون الولايات المتحدة ليست سوق تصدير رئيسيًا لليابان في هذه المنتجات. والأمر نفسه بالنسبة للهند. ولكن التأثير الأكبر سيكون على روسيا كون الولايات المتحدة هي سوق التصدير الرئيسية لها، بالإضافة إلى أن إمكانية رفع التعريفات عنها تبدو ضئيلة.
بالنسبة للتأثير على الاستثمار العالمي فقد أشار تقرير لمنتدى الاقتصاد العالمي إلى أنه استنادا إلى مقياس Ebeke وSiminitz لعدم اليقين في مجال التجارة الذي تم تجميعه على مستوى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين والمملكة المتحدة فإنه في حالة زيادة الانحراف المعياري بدرجة واحدة في مستوى عدم اليقين التجاري سينخفض معدل الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو بنسبة 0.75٪ لمدة خمسة فصول. كما أشار التقرير أن الباحثون في مجلس الاحتياطي الفيدرالي يضعون مقاييس مختلفة لعدم اليقين في السياسة التجارية – واحد على مستوى الشركة ومؤشرين كليين يعتمدان على استخدام تغطية الصحف وتقلب البيانات على تعريفة الاستيراد وقدروا أن ارتفاع عدم اليقين في السياسة التجارية في عامي 2017 و2018 سيخفض إجمالي الاستثمار العالمي بنسبة 1-2 ٪.[8] والقرارات المتعلقة بالسياسة التجارية كفرض التعرفة الجمركية والتي لها طابع حمائي من شأنها انى تؤثر على نشبة الانحراف المعياري وبشكل عام على نسبة عدم اليققين وهذا بدورة سيخفض من معدل الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي ولذلك فقرار فرض التعريفة الجمركية الأخير من شأنه أن يزيد نسبة عدم اليقين ومن ثم خفض معدل الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي.
خاتمة
يتضح مما تقدم عرضه في هذه الورقة أن قرار الولايات المتحدة بفرض التعريفة الجمركية هدف إلى حماية صناعاتها الوطنية من منافسة الواردات الأجنبية، وحماية أمنها القومي، ولكن تأثيرات هذه الخطوة تجاوزت الحدود الأمريكية بالنظر إلى مكانة الاقتصاد الأمريكي وارتباطاته العالمي، ولاسيما مع القوى الدولية المصدرة لمنتجات الصلب والألمونيوم؛ مثل الصين، وكندا، ودولة الإمارات العربية المتحدة. بيد أن تأثيرات الخطوة الأمريكية على الاقتصاد الدولي تباينت من حيث حجم صادرات كل دولة من هذه المنتجات إلى السوق الأمريكية، ومدى اعتماد اقتصادها على هذه المنتجات في تجارتها مع العالم. ورغم المخاوف الأولية من تأثيرات هذه الخطوة على الاقتصاد العالمي في حال ردت الدول المتضررة بإجراءات مشابهة، فإن مؤشرات السوق واتجاهاته أبرزت أن العالم آخذٌ في التأقلم مع هذا المستجد والتكيف معه.
[1] مجدي صبحي، ” حماية الأمن القومي الأمريكي أم حماية الصناعة؟!”، بوابة العين الإخبارية، 31 يناير 2020.
[2] http://www.worldstopexports.com/us-aluminum-imports-by-supplying-country
[3] https://www.thomasnet.com/articles/top-suppliers/aluminum-manufacturers-suppliers/
[4] S&P Global https://www.spglobal.com/en/research-insights/articles/chinese-steel-output-reaches-new-heights
[5] CNBC https://www.cnbc.com/2018/07/05/ripple-effect-from-pending-us-china-trade-war-drop-in-fdi-worldwide.html
[6] https://www.putnam.com/institutional/content/marketOutlooks/772-trump-tariffs-and-trade-the-impact-on-stocks
[7] World economic Forum https://www.weforum.org/agenda/2019/01/how-trade-war-would-impact-global-growth-tariff/
[8]World Economic Forum https://www.weforum.org/agenda/2019/10/tariffs-and-monetary-policy-us-china-tariff-war/
التعليقات